أقر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 3 ذي القعدة 1426ه نظام مزاولة المهن الصحية الجديد. وتضمن هذا النظام مادة جديدة وخطيرة تنص على إلزام الأطباء وأطباء الأسنان بالتأمين ضد الأخطاء المهنية. وهنا قد يخامر الكثيرين من أفراد المجتمع هاجس ملح من خشية تزايد الأخطاء الطبية اتكالاً على ما يوفره التأمين الطبي للطبيب من أمان واطمئنان. وربما يكون مصدر هذا الخوف هو الاعتقاد بأن التأمين يحمي الطبيب من عواقب أخطائه المهنية فحسب وأن هذا قد يشجعه على ارتكاب المزيد منها، وأن التأمين يعرض حقوق المريض للضياع، لأنه سيواجه في حال الشكوى ضد الطبيب ليس الطبيب نفسه، بل شركة التأمين ذات المخالب الدفاعية القوية. والواقع أنه ليس هناك ما يسوغ هذا الاعتقاد أو ذاك من روح النظام ونصوصه. فمن ناحية حقوق المريض نجد أن المادة السابعة والعشرين نصت على ما يلي: كل خطأ مهني صحي صدر من الممارس الصحي وترتب عليه ضرر للمريض يلتزم بالتعويض (أي الممارس الصحي) وتحدد الهيئة الصحية الشرعية مقدار هذا التعويض. وعدَّ النظام من قبيل الخطأ المهني الصحي ما يلي: 1- الخطأ في العلاج أو نقص المتابعة. 2- الجهل بأمور فنية يفترض فيمن كان في مثل تخصصه الإلمام بها. 3- إجراء العمليات الجراحية التجريبية وغير المسبوقة على الإنسان بالمخالفة للقواعد المنظمة لذلك. 4- إجراء التجارب أو البحوث العلمية غير المعتمدة على المريض. 5- إعطاء دواء للمريض على سبيل الاختبار. 6- استعمال آلات أو أجهزة طبية دون علم كاف بطريقة استعمالها أو دون اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بمنع حدوث ضرر من جراء هذا الاستعمال. 7- التقصير في الرقابة والإشراف. 8- عدم استشارة من تستدعي حالة المريض الاستعانة به. والجديد في هذه المادة هو النص على التعويض الذي تقدره الهيئة الصحية الشرعية. وهذه اضافة جديدة لم تكن موجودة في النظام السابق الذي كان يسمى نظام مزاولة مهنة الطب البشري وطب الاسنان. وقد حدد النظام الجديد في المادة (34) اختصاص الهيئة الصحية الشرعية بما يلي: 1- النظر في الأخطاء المهنية الصحية التي ترفع بها مطالبة بالحق الخاص (دية - تعويض - إرش). 2- النظر في الأخطاء المهنية الصحية التي ينتج عنها وفاة او تلف عضو من اعضاء الجسم أو فقد منفعته أو بعضها حتى ولو لم يكن هناك دعوى بالحق الخاص. ومن المعروف ان الدية او الأرش محدودة بمفاهيم شرعية وأما التعويض فمتروك لتقدير الهيئة الصحية الشرعية على قدر الضرر الحاصل للمريض وفي هذا مجال كبير لإنصاف المريض المتضرر. وقد كان من المآخذ التي يأخذها كثير من أصحاب الشكاوي أو كتاب الصحف ضآلة مقدار الدية أو الارش الذي تحكم به اللجان الطبية الشرعية (كما كانت تسمى في النظام السابق) بالقياس إلى مقدار الضرر الذي يلحق بالمريض أو جسامة الخطأ المهني الذي يرتكبه الطبيب. وكما يتضح من نص المادة فإن حق المريض محفوظ حتى ولو لم يطالب بالحق الخاص - إذا حدث من جراء الخطأ المهني وفاة أو تلف عضو أو فقدان كلي أو جزئي لمنفعة العضو. ومما يجدر لفت النظر إليه أن المؤسسة أو المنشأة تضمن سداد التعويض إذا لم تتوافر تغطية تأمينية أو لم تكن كافية. وإذا التفتنا إلى الناحية الأخرى ناحية الطبيب فإننا لا نجد مبرراً للخوف من ارتكازه على سند التأمين ليرتكب المزيد من الأخطاء المهنية، لأن المساءلة في قضية الخطأ المهني لا تقتصر على العواقب المالية التي يغطيها التأمين بل هناك المساءلات الجزائية والتأديبية التي قد تكون عواقبها على الطبيب أخطر من العواقب المالية والتي لا يلغيها التأمين ضد الأخطاء المهنية لأنها تطبق بمقتضى الحق العام. من ذلك مثلاً أن المادة الثامنة والعشرين تنص على تطبيق عقوبة السجن بما لا يزيد عن ستة أشهر وغرامة لا تزيد على مائة الف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين على من يقوم بإجراء العمليات الجراحية التجريبية غير المسبوقة على الإنسان بالمخالفة للقواعد المنظمة لذلك. وهذه معدودة ضمن الأخطاء المهنية التي تشملها التغطية التأمينية ولكنها لا تعفى من تطبيق الحق العام. وكذلك الأمر بالنسبة للمخالفات الأخرى التي تمثل إخلالاً بواجبات الطبيب تجاه المرضى فإن التأمين ضد الأخطاء الطبية لا يعفى من تطبيق عقوبات الحق العام التي تندرج حسب تكرار المخالفة أو جسامتها حتى تصل إلى الغاء الترخيص بممارسة المهنة. وهذه قاصمة الظهر التي يتحاشاها أي طبيب مهما كان مبلغ التأمين الذي يدفعه. ولا ينبغي في هذا المقام أن نغفل أثر الإجراءات الإدارية التي قد تترتب على المخالفات بغض النظر عن العقوبات النظامية ومن هذه الإجراءات على سبيل المثال إلغاء العقد أو النقل إلى مكان عمل آخر أو الحرمان من صلاحيات إكلينيكية معينة. ومع أن هذه العقوبات والإجراءات فيها من الردع ما يكفي إلا أن هناك ضوابط رقابية مهنية وإدارية أخرى تحد من حدوث الأخطاء الطبية في وجود التغطية التأمينية ومن هذه الضوابط نذكر ما يلي: ٭ التقيد بالآداب والأخلاقيات والأصول المهنية التي تعلمها وتدرب عليها كل ممارس للمهنة. ٭ التسجيل المهني لدى الهيئة السعودية للتخصصات الصحية الذي يتيح للهيئة مراقبة السلوك المهني للطبيب سواء في ذلك ما يخص الممارسة أو تنمية القدرات المعلومات. ٭ تطبيق معايير جودة الأداء وسلامة المرضى في المنشآت الصحية. إن الطبيب كممارس للمهنة حريص على سمعته المهنية قبل كل شي، وقد كنت بنفسي شاهداً على حادثة تؤكد ذلك. فقد حكمت ذات مرة لجنة طبية شرعية كنت أحد أعضائها على أحد كبار الأطباء الاختصاصيين من أصحاب العيادات الخاصة بغلق عيادته ثلاثة اشهر جزاء لتهاونه في علاج احد المرضى الذي حضر الى عيادته في حالة اسعافية. وفي وقت لاحق ذهب نفس المريض الى احد المستشفيات وقد استفحلت عنده الأعراض فلم يتمكن المستشفى من انقاذ حياته وتوفي. ولما كان من غير الممكن اثبات مسؤولية الطبيب المذكور المباشرة عن وفاة ذلك المريض، لذا فإن اللجنة لم تحكم عليه بالدية لكنه تظلم من حكم اللجنة بغلق عيادته، وطلب بدلاً من ذلك الحكم بالدية مع ان مبلغ الدية يفوق دخل عيادته في ثلاثة اشهر ذلك لأنه ادرك ان الضرر المعنوي وجرح سمعته من جراء اغلاق العيادة لهما تأثير اسوأ من الضرر المادي. وإذا كنا سلمنا بأن التأمين ضد الأخطاء المهنية لن يؤدي الى تفشيها ولن تضيع حقوق المرضى بسببه، اي لن تكون له عواقب سلبية - فهل له عواقب ايجابية؟ سوف يكون الجواب بنعم. ذلك انه سيترتب على تطبيقه امور في غاية الأهمية: اولها: - ان الطبيب لن يكون في حالة من التوتر الدائم يجعله يحجم عن اجراءات طبية فيها مصلحة للمريض بسبب الخوف من الدعاوي وما قد يعقبها من ادانته وتغريمه وبذلك يحرم المرضى من فرص افضل للعلاج، وتكثر الإحالات هرباً من المسؤولية. ثانيا: - ان الطبيب لن يبقى شهوراً طويلة حبيس حظر السفر والبطالة في انتظار البت في قضيته، الأمر الذي يسيء الى سمعة النظام الصحي في المملكة وعزوف الأطباء الجيدين عن مواصلة العمل في المملكة - ان كانوا غير سعوديين. ثالثها: - ان شركة التأمين سوف تكون طرفاً مهماً في المراقبة والتأكد من تطبيق المنشأة لمعايير الجودة وسلامة المرضى حتى لا ينهكها دفع التعويضات. من كل ما سبق ذكره نتوقع الخير - كل الخير - من تطبيق الزامية التأمين ضد الأخطاء الطبية على الأطباء وأطباء الأسنان. ٭ مستشار وزير الصحة