إذا أردنا استيعاب ماذا حدث، فذلك ممكن عبر الاطلاع على استراتيجية وزارة الصحة (1431 – 1440) تحت شعار المريض أولاً، أتت هذه الاستراتيجية مقابل فكرة التأمين الصحي، لذا نحن أمام فلسفتين هنا، فالتأمين يقوم على فكرة (الإنفاق)، والاستراتيجية تستهدف (الإنسان). وفي ظني أن التأمين الصحي في الوقت الحالي فكرة متجاوزة للواقع متعالية عليه لأسباب كثيرة ستتضح لاحقاً، لكن الاستراتيجية تنطلق من الواقع وتحاول معالجته. أدعو المهتمين بصحة البلد لقراءة هذه الاستراتيجية بل وأطلب من معالي الوزير التنسيق مع التعليم العالي لتدريسها على شكل «كورس» مكثف في السنة الأخيرة لطلاب وطالبات الطب والصيدلة والعلوم الطبية التطبيقية والإدارة الصحية لأنها وثيقة علمية وفكرية تخدم وعي الجيل الجديد من الممارسين الصحيين قبل انخراطهم في الواقع العملي.عالجت الاستراتيجية واحدة من أكثر الإشكالات في الأداء المهني المحلي وهي أن تدور الخدمة مع المريض أينما وجد ليكون المريض بؤرة العمل لا المستشفى مما يؤدي لتغيير مهم في فكر المقدم للخدمة فاحتوت مثلاً على برامج الطب المنزلي ونظام الإحالة والجودة وسلامة المريض والمراجعة الإكلينيكية والأطباء الزائرين والتبليغ عن الأحداث الجسيمة وإدارة الأسرة وجراحات اليوم الواحد وحقوق وعلاقات المرضى وغيرها من السياسات والمفاهيم التي تمكن العامل في الميدان من العمل بطريقة مختلفة خاصة عندما تقارن بغياب تام لتلك الأفكار من قبل واستسلام العمل الصحي الحكومي سابقاً للروتين اليومي وانتظار المشكلات لحلها مما أورث تبلداً وتراجعاً على المستوى الشخصي المهني لموظف الصحة. أعود للتأمين فأقول إنها فكرة تفتقد الأرضية التي تعمل عليها؛ فالتأمين يحمل فكراً خاصاً غير متوفر حالياً لدى معظم منسوبي الصحة، والذين ينادون به الآن يبدو أنهم لا يرون في البلد سوى الرياضوجدة والدمام وينسون شمالاً وجنوباً يفتقد لكثير من مقومات الخدمة المتكئة على فكر التأمين. أين القطاع الصحي الخاص الذي يقدم خدمة شاملة في حفر الباطن أو القريات أو جازان أو تبوك مثلا؟ كيف سيكون التأمين على الأمراض ذات الطابع المزمن والمكلف جداً كالسكر والضغط ومضاعفاتهما من فشل كلوي وجلطات دماغ واعتلال القلب وتأهيل ضحايا الحوادث وغيرها والتي تمثل معظم أمراض السعوديين؟ هل سيدخل الإسعاف الطائر تحت مظلة التأمين؟ كيف يمكن فهم عمل تأمين بينما الدولة ملتزمة وفق النظام الأساسي للحكم بتأمين الخدمة للمواطنين بما في ذلك العلاج بالخارج؟ إذن ما الفرق بين الأمرين؟ وهل الرغبة بالفندقة الصحية وإشكالات المواعيد مبرر كافٍ لهذه المغامرة؟لكن ومع ذلك فإنني مهتم بتوضيح أمر آخر أراه مهماً وهو متعلق بالإنسان مرة أخرى وهو أمر يواجه كلاً من التأمين -لو طبق- والاستراتيجية الصحية -خلال تطبيقها- وهو ما أسميه (الوزارة العميقة) على غرار الدولة العميقة في المجال السياسي، وهم أفراد لا أبالغ إن قلت إن عددهم يفوق نصف منسوبي الوزارة، هؤلاء خارج التغطية ولا تصلهم الرسالة، وتذبل صرختك (ولا صدى يوصل) إذ أنت في وادٍ وهم في وادٍ آخر، وهم بالمناسبة ليسوا سيئين من حيث المبدأ لكنهم يحملون سياقاً خاصاً لا ينسجم مع التطوير وسأذكر في المقال القادم نماذج من سلوك يقومون به ضد الأداء الجديد، لذا والحديث عن الاستراتيجية فيمكن القول إن أخطر ما يواجهها أنها استراتيجية (غير محروسة)! من يحرسها؟ وممن يحرسها؟ وكيف؟.. للموضوع تتمة.