مواقع التواصل الاجتماعي كتويتر وفيس بوك وواتس آب وغرف الدردشة والهشتاق، وغيرها من المواقع الأخرى، هي نوع من الأنظمة الحديثة للتواصل بين شعوب العالم، لم تعرفها مطلقاً الأجيال السابقة. لذلك عوالمها الافتراضية مازالت في طور التشكل والنمو، وإمكاناتها المتعددة، التي تؤثر في تصوّري في جميع مناشط الحياة: الفكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية، لم تزل في بداياتها. والآثار التي يمكن أن تؤثر في العلاقات بين البشر جراء هذا النوع من الأنظمة المستحدثة في التواصل لم تتشكل ملامحها حتى الآن. ربما سيشهد مستقبل البشرية ظهور معارف ونظريات ونشوء جغرافيا جديدة للعالم، وأيضاً سيشهد فهماً مختلفاً للحياة وللإنسان ولقيمه الموروثة عن التاريخ، جميع هذه التطورات سيكون لأنظمة التواصل الاجتماعي نصيب الأسد في التأثير في عقول الناس قبل حياتهم. فنحن نعلم تماماً أن مشكلة التواصل بين البشر هي إحدى أهم المشكلات التي سعى التفكير الإنساني سواء على مستوى الفلسفة أو السسيولوجيا أو السياسة والاقتصاد في تأمل عناصرها، وما أفرزه هذا التأمل من حلول ومقترحات، كانت الغاية والهدف منها إيجاد قيم مشتركة بين الناس تنهض على الحب والتعاون والسعادة. ولكي نبرز أهمية السياق التاريخي الذي يُعلي من شأن قيمة التواصل الاجتماعي، ونضيئه من الداخل، ينبغي أن يتجه كلامنا وتحليلنا إلى الفكر الغربي لأن مفهوم التواصل كنظرية وتطبيق كانت له أبحاثه ومنظريه وحقوله المعرفية التي أشبعته بحثاً وتنظيراً، ناهيك عن التطورات التقنية التي وصلت فيما وصلت إليه إلى أنظمة للتواصل لا يمكن لأي فرد في هذا العالم أن يستغني عنها في حياته اليومية على الإطلاق من أنظمة الموبايل إلى أنظمة 3d إلى أنظمة الألياف البصرية. وإذا ما اقتصر حديثنا على الجانب الفكري والفلسفي، فذلك لأن العلم الذي تأسست عليه هذه الأنظمة هو بالتأكيد وثيق الصلة بالنظريات الفلسفية التي كانت إحدى الأسباب المهمة التي أوصلت البشرية إلى ما هي عليه الآن من تطور في هذا المجال. ويمكن أن أعزز قولي بمثال. أن نظرية “الفعل التواصلي” التي تنسب إلى الفيلسوف الألماني هابرماس هي إحدى نتائج اشتغالات هذا الفيلسوف في البحث عن التوافق الإنساني، والبحث عن ركائز أساسية مشتركة تكون منطلقاً كي تقلل من الخسائر البشرية والاختلافات بينهم جراء الحروب وسوء الفهم والتوحش من الآخر. ولم يجد شيئاً مشتركاً بينهم سوى اللغة باعتبارها تحمل في داخلها بذرة ما يسميه الفعل التواصلي. هذه البذرة ترتفع إلى الشرط الإنساني الذي يمكن أن يرتفع فوقه بناء نظري متين يُسهم بطريقة أو بأخرى في بلورة مشروع مثالي مازال الفلاسفة منذ أفلاطون إلى ماركس يحلمون بأن يتحقق كي تعم السعادة بين البشر جميعاً. لاشك أن مثل هذه الجهود لها وجاهتها التي يمكن تبريرها انطلاقاً من الواقع المأساوي التي عبرته البشرية، وما خلفته من حروب ودمار وقتل. ومع تطور أنظمة التواصل بين الناس فإن اللغة بالمنظور الكلاسيكي القائم على الكلام والكتابة كما هي نظرية التواصل عند هابرماس، لم تعد هي المتسيّدة الساحة في أنظمة التواصل، فالكلام أو المحادثة بين شخصين أو مجموعة حاضرة بشخوصها أثناء المحادثة تلاشى، ولم يعد له وجود، والكائن الافتراضي هو البديل في مثل هذه المحادثات. فضلاً عن كون العلاقة بين المرسل والمستقبل تتحكم فيها جميع الحواس، وفي لحظة واحدة أيضاً. فأنت بإمكانك أن تتحدث عبر الموبايل، وتقود سيارتك أو تأكل أو تشاهد التلفاز، إلى آخره من هذه التوليفات الجديدة على التواصل الاجتماعي. لذلك أصبحت للغة أبعاد بصرية وسمعية ونفسية جميعها تدخل في نسيج الفعل التواصلي بسبب هذه الأنظمة بالتأكيد. لكن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه الآن هو: كيف أثرت هذه الأنظمة في علاقات الناس؟ وهل كان لها دور في تغيير أسلوب طرح قضاياها ومشكلاتها استتباعاً لتغير أسلوب التواصل بينهم؟ لنأخذ قضايا المعارك الأدبية كمثال للإجابة. لأقرر سلفاً أنه لا توجد قضايا جادة تدور حولها معارك أدبية في الإنترنت أو غيرها من أنظمة التواصل، كما شهدها تاريخ المعارك الأدبية في المنتديات أو قاعات المناقشة أو على صفحات الملاحق الثقافية في الجرائد أو المجلات كما حدثت في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم. لكن من زاوية أخرى، طرأت تحولات على مفاهيم عديدة في تلك العلاقة، من أهمها في تصوّري هو الشرخ الذي حصل في بنية الحوار القائم بين الناس. فأنت لو تأملت أو تابعت قضية طُرحت في الإنترنت أو على الهشتاق وأثير حولها بعض الردود، فإن من المتغيرات التي طرأت على مفهوم الحوار في أذهان الناس عندما يُبدون آراءهم عنصر المباغتة وغياب الحدود في الحوار وانحسار سمات النخبة والتفرد، وأخيراً غياب مفهوم النجومية والتراتبية في بنية الحوار. إن عكس هذه المتغيرات كانت حاضرة وبقوة في أنظمة التواصل الكلاسيكية. لذلك كان يمكن السيطرة على عملية الحوار وما تتضمنه من موضوعات، بل أيضاً يمكن توظيفها واستثمارها أيديولوجياً لصالح قوى لا تمتّ في أغلب الأحيان للمتحاورين. داخل أنظمة التواصل الحديثة يصعب التنبؤ والقول من هنا سوف يبدأ الحوار ومن هنا سينتهي، وكذلك عدم التنبؤ بالسياقات التي سيؤول فيها الكلام أو الحديث. فإذا كان هذا كذلك، ونحن ندرك أن الحوار ركيزة أساسية في بناء القضايا ومعاركها، فإن ضبط المسميات أو المصطلحات لظواهر ثقافية جديدة لم نعرفها من قبل يحتاج إلى أمرين في ظني لم يكتمل نموهما بعدُ في خطابنا الثقافي والاجتماعي: الأمر الأول تأمُّل الباحث والمفكر وصبره، والأمر الآخر: تراكم التجربة والخبرة لأجل فهم أفضل لهذه الأنظمة. لذلك تفرض مثل هذه الظواهر تحدياً كبيراً على الفكر في دراستها واستخلاص جملة من سماتها وطريقة عملها في التأثير على عموم الناس. هذا التحدي تكمن صعوبته في أن هذه الظواهر لا تشترك في صنعها ثقافة مهيمنة بفعل الهيمنة أو القوة على الآخرين، بل أصبحت مثل هذه الظواهر كالعوالم الافتراضية يشترك في صناعتها جميع ثقافات العالم المهيمنة منها وغير المهيمنة، بحيث تمتاز بالقدرة على التغير والتطور في كل لحظة، وبالسرعة التي لا يمكن مقاربتها بمناهج العلوم الاجتماعية التقليدية. هي تحولات عميقة تضرب في عمق العلاقات الاجتماعية العالمية، وتعطيه شكله الأكثر مراوغة وانفلاتاً من كل فهم وتبصر. وما يزيد الوضع تعقيداً هو الاستقلال السياسي لمثل هذه الظواهر عن طريق مراكز بحوث هدفها تكريس المصالح السياسية وتطويعها لخدمة الهيمنة والتسلط. لكن وحدة الفكر النيّر والنقدي هي ما يكشف عن زيف تلك الأهداف من جهة، وهي من جهة أخرى ما يعطي شكل هذه الظواهر قيمة معرفية ومفاهيم وتصورات يمكن من خلالها توطين هذه الظواهر في جغرافية العقل والإدراك.