نظرية الأستاذ إبراهيم البليهي عن عبقرية الاهتمام جديرة بالتأمل، وكثير مما يحاول اشاعته من أفكار في مقاله الاسبوعي، أو فيما صدر له من كتب، تستحق التأمل، والتأمل المستغرق الذي يقود لفحص الفكرة وقراءاتها من وجوه عدة، فمن يستغرقه مجال اهتمامه اولى بأن يستغرق قراؤه الاهتمام بالقراءة الفاحصة والمتأملة والمتأنية لإنتاجه. في مقالات إبراهيم البليهي عن الابداع والمبدعين ونفوره البّين من الكلالة الذهنية ومفاهيم التخصص الحابسة للمواهب والمتوقفة عند حدود الاجترار البليد، وفي دعواته الكثيرة للبحث عن اسباب الكلالة الذهنية والضحالة والتوقف والخمول الذي اعطب حركة الأمة تجاه محفزات النهوض أو البناء أو الاقلاع الحضاري كما يدعوه الدكتور محمود سفر الذي افرد له البليهي مقالاً كاملاً ليسلط الضوء على بعض إنتاجه الابداعي.. في كل تلك المقالات وغيرها، أخشى أن تتحول حالة استثنائية مثل حالة إبراهيم البليهي إلى حالة شبه متوقفة، لأن التركيز على الاشكال ووصف ظواهر العلل، واحالتها أحياناً إلى مصادر ذاتية بحته أو نتيجة ألفة اجتماعية أو عادات مستحكمة أو نسق ذهني أو برمجة ذهنية لا يكفي لاكتشاف أن ثمة ما هو أكبر من حدود إدانة أو اكتشاف عقدة.. بالإضافة إلى أن التجريد والاحالة التاريخية لاتكفي لمس الجوهر في حالة تغيير منشود. لا يحتاج مني إبراهيم البليهي إلى مزيد من الاشادة، فهو يعرف حتماً قدر اعجابي به وتقديري لمواهبه وإيماني برسالته واحترامي لتاريخه، لكن ما اعتقده مجالا للاستشكال أكثر من الاختلاف هو ما يمكن أن يعود للبحث في ميكانيزمات التغيير. وصف حال الأمة المتردي وعللها الظاهرة ونكبتها الحضارية والعودة إلى مسلسل التطور الحضاري الإنساني وتلمس الخلل كلها تبقى عناوين مهمة، وهي خدش مهم في جدار التخلف لاني اشك أن ثمة ثقباً في جدار التخلف، فهو أكثر صلادة مما نتصور وأكثر ممانعة مما نشتهي، لكن وصف الدواء أحياناً وفق المسلسل التاريخي للتطور البشري وعبر استدعاء أفكار التغيير دون آليات التغيير، قد لا يكون هو العلاج وقد يستحيل إلى داء آخر يعالج بنفس ميكانزمات التغيير السابقة في حلقة مفرغة تعيد إنتاج التخلف ذاته والمشكلة ذاتها والتوقف ذاته. ماذا يعني كل هذا؟ ثمة مسألة تستوقفني وأنا لست سوى قارئ عابر، حول آلية التغيير التي تحملها قوة حارسة أو دافعة أو ملزمة. يقول إبراهيم البليهي في معرض الحديث عن ضمور المبدعين وتراجع تأثير المبدع وضعف الاثر الذي يحدثه في مجتمعاتنا (لقد اثبت التاريخ بانه يتكرر ظهور المبدعين في المجتمعات المغلقة دون أن يتركوا اثراً ظاهراً في ثقافة المجتمع أو في واقعه إلا إذا ساندتهم قوة قائمة، فهذه المجتمعات تبقى تواصل الرفض وتعتمد القوة وتتأبى على الاستجابة فيختفي المبدعون تباعاً واحد اثر آخر دون أن يستفيد المجتمع منهم لأن القوى المهيمنة تريد الثبات والاستمرار بينما التقدم يتطلب التغيير والابداع ومن المعلوم ان عامة الناس لا يستطيعون التقييم بأنفسهم وانما ينقادون خلف قادتهم المهيمنين). هذا نص رائع لا خلاف عليه في الاجمال، فالفكرة تحملها القوة، وكم من قوة حملت فكرة حتى لو كانت الفكرة لا تقوى على حمل نفسها.. فما بالنا إذا كانت الفكرة قوية في ذاتها وتهيأ لها قوة تحملها للناس. ومصدر الاستشكال هنا، إننا بصدد القوة والفكرة، وهما ثنائية التغيير، التي قد تتحول أيضاً إلى مصدر خطير للجمود والتوقف، لأن الأفكار البشرية التي تحملها قوى للناس قد تتحول مع الوقت إلى حالة من الثبات المحروس.. فكم من أفكار بشرية - وأنا هنا بصدد الأفكار التي يطلقها البشر ويتعاملون معها وينتجونها - بشّر بها وقاد إليها مؤمنون بها ومدافعون عنها، حتى اقنعوا أو حملوا الناس عليها، لكنها تحولت مع الوقت إلى أفكار محروسة بذات الآلية التي حرست فيها أفكار سبقتها، لم يفكك هيمنتها سوى قوى اخرى حملت أفكاراً اخرى.. وهكذا في حلقة من طلب النصرة المتبادل بين الفكرة والقوة. الشيوعية - على سبيل المثال - بدأت فكرة في عقول مبدعيها وتحولت إلى زخم من قوة حملت فكرة ونظاماً ومؤسسة، حتى سقطت بعد سبعين عاماً في وطأة استعادة أو تطوير فكرة اخرى أو جملة أفكار ولم تسقط سوى تحت تأثير قوة اخرى اقوى منها وأمنع وأكثر قدرة على الحياة. القومية العربية فكرة، ومشروع حضاري في عقل مبدعيه ودعاته، حمله العسكر المنتمون لذات الفكرة إلى عناوين التغيير.. لتتحول الفكرة إلى نظام فاشي محروس حتى تهاوى تحت الضغوط والفشل الذريع وهي قوة أكبر.. كانت كافية لاسقاط مشروع. مع معرفتي التامة بالعلاقة بين جاذبية الفكرة ورداءة التطبيق.. لماذا استدعاء مثل هذه النماذج، لنقترب من فكرة مهمة، وهي ان القوة التي تحرس فكرة تبدو انها الاصلح والأفضل والاجدر بالحياة، سرعان ما تتحرك إلى قوة مهيمنة وضاغطة وقاتلة لفرص إنتاج افكار اخرى تتعارض مع السائد.. وهكذا نظل ندور في ذات الحلقة المفرغة بين الفكرة والقوة. في اعتقادي ان التغيير، حتماً يحتاج لقوة، ولن تكون هذه القوة في الفكرة ذاتها فقط، فكم من فكرة عند الفحص والتحليل والتقييم تبدو قوية في ذاتها، لكن حراسة المألوف والسائد والقتال من أجل الثبات من أجل مصالح فئات أو مجموعات أو انساق أو نظم أو ثقافة.. بامكانها اجهاض الفكرة وتحويلها إلى حيز الادانة عبر أساليب كثيرة ليست فقط في اخراس الصوت الجديد بل وفي حشد مقاولي الأفكار واستدعاء مخاوف كامنة لدى المجموع من التحول وعبر علاقات معقدة من المستفيدين من حالة ثبات أو استقرار.. لكن المهم ان لا نجعل حياة الفكرة وهنا بالقوة الملزمة ولا نجعل حياة الفكرة أن تحملها قوة تحرسها.. لانها حتى لو نجحت في مشروع التغيير، ستتحول مع الوقت إلى تابو يحتاج قوة أكبر لاقتلاعها وهكذا.. في مسلسل يعيد إنتاج نفسه بين إنتاج الفكرة وتعاقب القوة لحملها للناس والتبشير بها. ولذا فإن اشاعة أفكار اخرى حول التغيير وميكنزماته وآلياته، تستوجب البحث عن آلية لا تتوسل بالقوة المهيمنة والحارسة والملزمة للفكرة مهما بدت جاذبيتها، وحتى لو كانت الافكار عظيمة في تقييمها ابتداءً، ومن هنا كنت أود لو تواصلت جملة الأفكار التي يطلقها البليهي أو سواه ممن عنوا بالمشكل الحضاري وممن استغرقتهم أزمة التخلف واقضت مضاجعهم حالة الجمود والتوقف لما هو ابعد من حالة ادانة جماعية بالعطب الذهني.. ولعلي هنا وبعيداً عن التجريد أو مناوشة الامر عن بعد، اذهب إلى أن القوة التي نحتاجها اليوم لحمل الأفكار وهدم الحواجز بين الناس والمبدعين، والحيلولة دون مزيد من التناوب المؤذي بين الفكرة والقوة بمفهومها الاخضاعي.. هي باشاعة مفهوم ان القوة الجديرة بحمل الفكرة، لن تكون يوماً ما قوة ايديولوجية، أو منظومة أفكار حتى لو بدت ثورة على السائد.. ان هذه القوة تكمن في منظومة قيم مؤسساتية اولا، تأتي على رأسها الحرية كقيمة محورية.. ونظام حقوقي شامل، يطال السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويحظى بحراسة القانون أو النظام أو الدستور الذي تتوافق عليه الأمة كثابت قيمي اساسي وما عداه قابل ضمن آلية المراجعة والتغيير والتطوير للتحول طالما كانت هناك أفكار تنتج وظروف تتغير وحياة تتبدل. المجتمعات المستقرة والمزدهرة في آن، لم تحقق ما حققته اليوم فقط من خلال استيعاب مبدعين أو مطلقي أفكار، انها استوعبت آليات التغيير من خلال قوى كامنة تتحرك كل يوم.. ولم يعد بالتالي ثمة أفكار محبوسة ومختنقة لا يمكن لها الحياة سوى من خلال قوى اخرى تحملها لعالم الوجود. إذا كان ثمة تغيرات نوعية في الحضارة الإنسانية جديرة بالاهتمام، فهي هذه القدرة المذهلة على استيعاب الأفكار والتطورات والقدرة الفذة التي انتجت بيئة نوعية وفرت مجالا رحباً للاضداد حد التعايش ضمن سقف النظام أو المؤسسة الحارسة لقيم إنسانية قبل ان تكون حارسة لافكاراً بشرية. وإذا ظللنا دهراً نحاول ايقاظ المجموع من خلال اشاعة أفكار حول قيمة العمل الجاد والاتقان والاستغراق والاهتمام دون أن نبلور بوضوح مكونات البيئة التي تجعل مثل هذه القيم الجميلة مراكمات للإنتاج والتميز، فلن نكون سوى ممن يطالب الجائع بالمزيد من الاستغراق في منظومة إنتاج لا يراها. في مسألة البحث في عقدة التخلف أو التوقف عند الأستاذ البليهي، ثمة مرجعية تحيل للمجتمع بأسره باعتبار ان قيم العمل والإنتاج تكاد تكون مفقودة، والكلالة الظاهرة تحسم مثل هذه التصورات، وباعتبار ان التغيير يبدأ من محاولة مس الثابت في قناعات القاعدة العريضة من أجل احراز تقدم ولو نسبي في منظومة قيم العمل والإنتاج والابداع أو فحص السائد.. وهذا لا غبار عليه من ناحية المبدأ، لكنه في الغالب يسدل الستار ويتوقف عند قيم عمل لا قيم إنسانية واستحقاقات تقدم لا استحقاقات بشر يحتاجون ما هو أكثر للعثور على انفسهم.. قبل احالتهم إلى ترس في آلة إنتاج معطوبة.. أعتقد ان ثمة حلقة مفقودة في منظومة البحث في مشكل التخلف أو التوقف أو الجمود، وما لم يكن هناك وضوح وشجاعة في الربط بين نظام إدارة مجتمع ونظام حياة أفراد، فسنظل نحيل إشكالاً معقداً وكبيراً إلى مفاهيم ذاتية قيمية مهما بلغت وثوقيتها فهي أقل من ان تعلن حالة نهوض حضاري. ليس هذا مقالاً نقدياً لافكار أستاذ كبير كالبليهي، انه نوع من الاستدعاء الذي تفرضه حالة قراءة أحياناً، فلا نملك سوى وميض فكرة قد تصيب وقد تخطئ وقد ينتابها ما ينتاب أي ملمح فكري لا يصمد امام الفحص أو التحليل البعيد.