بعد لقائي أحد المسؤولين الفرنسيين وانتظاراً لموعد آخر بعد ساعة، وجدت من المناسب الجلوس مع بعض الأصدقاء في أحد المقاهي الباريسية المطلة على نهر السين والقريبة من محطة المترو، الشريان الحيوي الذي يربط باريس بضواحيها الجميلة. في إحدى زوايا المقهى جلس رجل عجوز ماسكا حبلا يتصل برقبة كلب يراقب أنفاس صاحبه بينما جلست امرأة تسير في نهاية العقد الرابع من عمرها، تراقب هي الأخرى أنفاس العجوز الذي يمشي في أرذل مراحل العمر. اقتربت منه في زاويته البعيدة وتأكدت أن الجالس بهدوء يداعب كلبه ويضحك مع المرأة الباريسية ليس سوى جاك شيراك الرئيس الفرنسي الأسبق، رئيس واحدة من الدول العظمى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. ألقيت عليه التحية بهدوء شديد واحترام لوقار العمر الذي بلغه وغادرت زاويته باتجاه الطاولة القابعة خارج المقهى حيث كان المطر رذاذا يغسل الأجسام والنفوس في منظر لانجد له مثيلا في بلداننا. هزني المشهد برمته وأنا أضرب أخماساً في أسداس، أتامل في واحد من زعماء العالم الذين كانت تصريحاتهم تغير مجرى الصراعات الإقليمية والدولية وتحرك مؤشرات أسواق المال صعودا وهبوطا..هذا الرجل يجلس بلا حراسات ولا أبهات، بل يسكن في شقة بالتأكيد ليست متواضعة لكنها بالتأكيد أيضا ليست قصرا يليق برئيس سابق لدولة عظمى!! حسب ويكيبيديا الموسوعة الحرة، ولد جاك رينيه شيراك يوم 29 نوفمبر 1932، ينتمي لحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، وانتخب لمنصب رئاسة الجمهورية الفرنسية في 1995 وجدد له في 2002، وانتهت رئاسته بتاريخ 17 مايو 2007. وكان قبل ذلك عمدة لمدينة باريس لمدة 18عاماً من 1977 إلى 1995. كما تولى رئاسة وزارة فرنسا مرتين: الأولى من 27 مايو 1974 إلى 26 أغسطس 1976، والثانية من 20 مارس 1986 إلى 10 مايو 1988. وقد تم الحكم عليه بالسجن لسنتين مع وقف التنفيذ في 15 ديسمبر 2011 و ذلك بعد أن وجد القاضي أنه مذنب بالفساد وتبديد المال العام واستغلال ثقة الشعب. وقد جاء في منطوق الحكم «لقد خرق جاك شيراك واجب النزاهة المطلوب من قبل المسؤولين العاملين في الحقل العام، على حساب المصلحة العامة للباريسيين». لكن جورج كيجمان، محامي شيراك قال حينها «بالنسبة للذين كانوا يتوقعون طيَّ القضية، أو على الأقل عدم معاقبة المتَّهمين، فإن هذا الحكم قد يبدو مخيِّبا للآمال». وحسب التقارير الصحافية التي صدرت بعيد صدور الحكم، يعتبر الحكم هو الأول من نوعه بحق رئيس دولة فرنسي سابق منذ إدانة المارشال فيليب بيتان، قائد ما كان يُعرف بنظام فيشي، الذي أدين بالتعاون مع النازيين عام 1945. يُذكر أن شيراك قُدِّم للمحاكمة بتهمة تحويل أموال عامة إلى وظائف وهمية لأعوان سياسيين حين كان رئيسا لبلدية باريس بين عامي 1977 و1995، وهي الفترة التي شكَّل فيها حزبا ديغوليا جديدا ينتمي ليمين الوسط أطلق من خلاله مسعاه الناجح لتولي الرئاسة. يقال إن أحد الأثرياء العرب تبرع له بشقة في باريس ليمضي بقية حياته بعيدا عن الضجيج، وليحاول استعادة ذاكرته التي يفقدها بين فترة وأخرى خصوصا إبان محاكمته. جاك شيراك اليوم رجل عادي، يقضي جزءاً من وقته في المقهى القريب من شقته ويتمشى مع كلبه الوفي دون حراسات ولا أبواق سيارات المرافقين التي تتسبب في التلوث الضوضائي كلما مر زعيم في العواصم العربية، حيث إن الزعامة لدى العرب دائمة حتى يأخذ الله أمانته، ولذلك ليس لديهم زعماء سابقون إلا ما نذر. حياة شيراك لاتختلف عن كثير من الزعماء السابقين في مختلف دول العالم الديمقراطي أو الذي يسير على خطا الديمقراطية، فهم يتحولون إلى مواطنين عاديين عندما يغادروا كرسي المسؤولية ويخضعون للقانون والدستور الذي جلبهم إلى السلطة وأعفاهم منها، وهم يقدمون إلى المحاكم حتى وان مضى على مخالفاتهم عقود من الزمن، فالدولة المؤسسية القائمة على احترام حقوق الإنسان وتطوير الديمقراطية لايهمها منصب من ارتكب الخطأ بقدر ما يهمها تطبيق القوانين المنظمة. القانون الذي يقف على مسافة متساوية من الجميع بغض النظر عن مناصبهم الحالية أو السابقة. فقد سبق لبيل كلينتون أن خضع لتحقيق في قضية أخلاقية وهو على مقعد رئاسة القوة العظمى الأكبر في العالم فلم تهتز أمريكا لذلك الحدث، بل واصل الأمريكيون أعمالهم غير مكترثين بما ستؤول إليه عمليات التحقيق والمحاكمة للرئيس الذي نقل أمريكا من العجز الأسطوري في الموازنة العامة الاتحادية إلى الفائض الذي بلغ أكثر من مائة مليار دولار وحسن من الخدمات الأساسية وخفض نسبة البطالة. عندما يتم احترام القانون يطمئن الجميع لسير العدالة.. فمتى يصل العرب إلى هذا المستوى المؤسسي.