تتشكل قيمة التفاعل الإنساني والثقافي في جميع الحضارات عبر التاريخ في قدرة اتباع هذه الحضارات على خلق مناخ تحاوري بين مختلف مكونات المجتمع يقوم على محاولة الإسهام في التطور والعمل البشري المنطلق من مجموعة من المشتركات الدينية والوطنية، ولا سبيل إلى هذه الحالة إلا بحوار مسؤول يغرس في ذهنية وشخصية أجيال الأمة. إن الاختلاف بين البشر سنة كونية سنها الله سبحانه وتعالى في قوله الكريم: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) هود 118، وفي كل مجتمع أو ثقافة لها جهود فكرية مختلفة ومتنوعة، لذلك أصبح الحوار مهما جداً كون المصلحة تقتضي توحيد الطاقات، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم أو يستقر إلا بالاستفادة من جميع مكوناته التي من أبرزها: النسيج الاجتماعي المتباين من حاضرة وبادية وأقاليم، وتنوع مذهبي، وكذلك الخصوصية المحلية لكل بيئة أو منطقة، أو ثقافة، من حيث العادات والتقاليد المتبعة في كل منطقة أو ثقافة، ولا نستطيع أن نغفل الموروث والتقاليد المتنوعة في بلادنا من آداب وقصص وشعر وتاريخ وتنوع في الأكلات والفرح في المناسبات وغير ذلك، لأن هذه المكونات جميعها ترتكز عليها عملية التنمية والتطوير، فهذا التنوع يصبح قوة إذا ما تمت صياغته بالحوار، وربطناه وعمقناه بالتعايش؛ حيث يمكن من خلاله أن نصل إلى نسيج اجتماعي عميق ومترابط. وفي الشأن الوطني لدينا رهانات على مشروع الحوار في المجتمع السعودي؛ أهمها: البعد الديني: حيث يمثل هذا البعد أهمية كبيرة كون المجتمع السعودي بطبعه مجتمعاً متديناً، فديننا الحنيف يحث دائماً على الحوار والتعايش مع الآخرين. وقد تضمن القرآن الكريم حوارات كثيرة أوردها الله سبحانه وتعالى على لسان أنبيائه مثل حوارات الأنبياء مع مخالفيهم، فالحوار إذاً قيمة عظيمة أكدها القرآن الكريم، وكذلك نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم في حواراته المتنوعة مع أصحابه وأهل بيته، بل حتى حواراته مع غير المسلمين والمخالفين له. البعد الوطني: ويُعد هذا البعد مهماً للغاية؛ لأنه يقودنا إلى الوحدة الوطنية، فعندما نتحدث عن هذا البعد فلا يمكن لنا أن نتجاوز شخصية المؤسس الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه– وهي الشخصية الوطنية التي يجمع عليها كثيرون؛ حيث كانت له حوارات كثيرة مع زعماء القبائل، ومع المعارضين للتغيير والتطوير فهو بالحوار الهادئ تمكن – رحمه الله – من أن يوحد البلاد، وأن يقنع خصومه ويستميلهم إليه بالحكمة والحوار، وهذا المنهج هو الذي سار عليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله – في تبنيه واهتمامه بالحوار لتجسيده بين فئات المجتمع حتى يكون الحوار سلوكاً ممارساً في حياتنا اليومية. البعد الثقافي: ويقصد به الموروث والعادات المشتركة حتى وإن كان بينها فروقات بسيطة، بل إنها أعطت قيمة مضافة للثقافة المحلية التي نراها زاهرة من خلال ذلك نستطيع المحافظة على هذا الموروث والاهتمام به عن طريق الحوار. ومن الأساليب والأدوات التي لها أهمية كبيرة في ترسيخ مفهوم الحوار وجعله يتحول من حلم إلى واقع المحيط الأسري: فكون الأسرة هي نواه المجتمع وهي المسؤولة عن تنشئة أفراد المجتمع التنشئة الصالحة، لذا لابد من استثمار الحوار داخل الأسرة، لأن ذلك سوف يعالج قضايا كثيرة، ويقضي عليها مثل الانحراف السلوكي والفكري لدى الأولاد، أما إذا كان الحوار غائباً في المنزل فإن ذلك سوف يوجد الاختلافات والانحرافات السلوكية والفكرية بين الأولاد، وتزيد المشكلات الأسرية داخل الأسرة. ومن أهم الأبعاد أيضاً التي تُعد مكملة لدور الأسرة هو التعليم، ولا أقصد بذلك أن يكون للحوار منهج؛ لأن ذلك قد يُضعف مفهوم الحوار كون بعضهم سيتعامل معه على أنه مادة نجاح ورسوب، بل المقصد هو إنشاء مجالس حوارية مكونة من الطلاب ومديري المدارس والمدرسين، ويتحاور المدير مع الطلاب ومع المدرسين لأن هذا سوف يساهم في بناء الثقة لدى الآخرين، ويقوي مفهوم الحوار لديهم، ويجعلهم متفاعلين مع مجتمعهم، ويتعاطون معهم بدلاً من الانغلاق على النفس ومهاجمة الآخرين دون أي منطق. ومن الأبعاد المهمة في ترسيخ مفهوم الحوار المسجد، لأن له دورا مهما وذلك من خلال هذا المكان المقدس الذي تجتمع فيه أغلب فئات المجتمع، خمس مرات يومياً وليس المقصود هنا بالخطبة والوعظ (وإن كان لها دور فاعل بلا شك) ولكن المقصد هو المكان الروحي العظيم الذي يجمع الجيران بعضهم مع بعض، ويتحاورون فيما بينهم، فهو فرصة عظيمة للتواصل، وكذلك توطيد العلاقات الاجتماعية بين الجيران؛ حيث يجري هناك حوار روحي بين الجيران وغيرهم من المصلين، فتردد الناس إلى المسجد يغذي مفهوم الحوار؛ لأنه يعني الالتقاء والاجتماع، والحوار يقوم على الالتقاء دائماً للنقاش. إذاً فالحوار أصبح في هذا العصر ضرورة وليس مطلباً فقط في حياتنا اليومية؛ لأنه بالحوار يمكننا حلُّ مشكلاتنا بهدوء ومن دون تشنجات أو احتقانات، وبه نستطيع أن نناقش قضايا كبيرة وحساسة تهم الوطن والمجتمع كافة، وأن نصل إلى حل يرضي جميع الأطراف وأن نرتقي بمجتمعنا ليكون مجتمعاً راقياً يسوده الحب والوئام فالحوار هو سمة الشعوب الراقية وعنوان التحضر والتطور.