من الأهمية بمكان أن نولي الحوار أو السجال أهميته في صنع ثقافة منفتحة ومتوازنة. وذلك بالأخذ بسياق التيارات الفكرية والثقافية المتعددة والمختلفة، وأن نسعى سعيا حثيثا لبناء مشروع ثقافي مستقبلي بمصداقية وشفافيه في حوارنا مع أنفسنا في الداخل، وحوارنا مع الثقافات الأخرى، وهو ما يسمى بالحوار مع الآخر. ومن خلال مشاركتي في الكثير من الحوارات الثقافية والفكرية التي كانت من أبرز الفعاليات الثقافية التي شكلت الحراك الفاعل في المشهد الثقافي، كان واضحا الاختلاف التام بين المتحاورين، ناهيك عن ضعف الكثير من الأوراق، فكان أن خرجنا من تلك اللقاءات برؤى وأفكار،لم تكن مقنعة أو جادة، ولا تتضمن ما يؤمل أن تكون خطوطا أولية لمشروع خطاب ثقافي بوحدنا. إن أمتنا، بدت في مأزق حقيقي، بعد أن فقد مثقفونا بوصلتهم،وافتقدت ثقافتنا الكثير من السمات التي تميز هويتها، حيث نجد أننا نواجه تخاذلا في المقاصد وشتاتا في الفكر وعتمة في الرؤى وبدأنا نبحث عن خطاب يوحدنا، وكلمة حق صادقة تثبت صدق نوايانا، فمنذ مطلع القرن الحالي، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، انقلبت كل الموازين، ووضعت قوانين تتنافى مع القيم الإنسانية والحضارة الفكرية، كما انتهجت أساليب لإرغامنا على توجهات لا يمكن أن تكون إلا بغرض تغيير هويتنا والإنسلاخ من أصالة موروثنا الثقافي وإرثنا الحضاري.إن المفهوم الثقافي في تحديد مستوى ثقافة أي مجتمع، وفق ما تعارف عليه معظم العلماء والمفكرين في القديم والحديث-لا يمكن أن يرتبط سياقه في الكلمة والمفردة أو اللغة فحسب، بل يصبح مفهوما شاملا، يخرج من هذا الحيز الضيق إلى،مفهوم أوسع تتميز به ثقافة الشعوب في طبيعة العيش وعمرانها المباني،وما يميز صفافتها الاجتماعية وعاداتها في الملبس والمأكل، ونجد هذا التمايز أو التجانس ملموسا حتى في المجتمع الواحد وفي البلد الواحد،ومهما تفاوتت مستويات الإختلاف والتنوع،فإن ذلك بكل تأكيد لا يعد انقساما في المجتمع أو تفرقة تعيب تجانسه،وإنما هي نتاج طبيعة فطرية،نجدها مقبولة لكي يتأقلم المجتمع مع فرضية التعددية الثقافية،وحتمية الأخذ بالمتغيرات..واختلاف المؤثرات والموروثات الثقافية، ومن هنا تأتي أهمية تبادل الرأي والحوار مع الآخرين، من أجل التعايش لا التنافر والإقتتال. ومن هنا أيضا،تأتي أهمية الإتفاق على معايير أدبيات الحوار وإختلاف الرأي،هذا إذا كنا نتطلع للإتفاق على خطاب تقافي تتضافر له كل جهودنا لتبنيه والدفاع عنه.إن أمتنا اليوم في أمس الحاجة لعقلانية وحكمة مثقفيها ومفكريها،في ظل الظروف المأساوية التي تشهدها المنطقة،سواء بالتغتيت وخلق الفوضى الفكرية والعقائدية،حيث إن هناك بالفعل صراع بين ذوي العقائد، بل صراع أيديولوجي بين مختلف الثقافات،يمتحن فيه العقلاء من علمائنا و مفكرينا، وهو بحق امتحان صعب، يحتم عليهم تجاوز خلافاتهم وحواراتهمم المتعصبة ونبذ الجدل الذي يتسم بالغلو وتسفيه الآخر وإلقاء التهم الباطلة عليه.ويكفينا الدليل على عمق اختلافنا وتباين أفكارنا،أننا نختلف على أن تكون كلمتنا الموحدة في قضايانا المصيرية،ومن السذاجة أن نفكر بطريقة الغرب وننكر ما لنا من خصوصية،فماهم عليه من عقيدة وحرية،لايمكن أن تكون ملائمة لنا ولا تتفق مع طبيعتنا الاجتماعية وعقسدتنا الدينية،حتى لو تمسكنا بأبسط قواعدها وأوسطها. وعلينا ألا ننسى أن هجمتهم الشرسة علينا إنما هي حرب على ديننا،ولنيرضوا عنا حتى وإن اتبعنا الملة والعقيدة التي هم عليها.فمن أهم وصاياهم وبروتوكولانهم مسخ هويتنا وشل تفكيرنا، وزرع الفتنة والانقسام بيننا والقضاء على تراثنا الذي هو بحق ثروتنا. الأوائل من علمائنا ومفكرينا الرواد اجتهدوا في وضع رؤية للإصلاح، وتغيير النمطية الثقافية واجتهدوا في مفاهيمها للمقاربة بينها وبين ثقافة الآخر، وصولا لصيغة تتوافق وتتواءم مع طبيعتنا وهويتنا، والعمل على إزالة الشوائب التي أحدثها الاستعمار، وانبثقت في تلك الفترة فكرة نقد العقل، وقد أسهم النخبة من علماء أمتنا باجتهاداتهم التنويرية وخلجاتهم الفكرية في وضع أسس مفهوم الإجتهاد في الفكر الإسلامي ونقد العقل العربي.ونقد الفكر العربي كما يقول محمد أركون لا يتأسس إلا من خلال نظرية الإيمان،لأن واقع تفكيرنا المتشبع بالتصورات الضيقة والرؤى المحدودة والعقلية المنغلقة،يحتاج منا لإعادة قراءة وقلب أطر وموازين لتحقيق المعادلة الصحيحة لمقاربة مناهج الفكر وتحديث أساليب التنوير والتثقيف،بما يتفق مع طبيعة العقل ويتبنى مسألة الحوار، إذ أن نظرية الإصلاح من خلال الحوار مع الآخر تكون صحيحة ما دمنا نستند إلى خلفية ثقافية جيدة ومرجعية تحترم روح الفكر في ثوابته ومتغيراته. وليس بالضرورة أن تكون كل ثقافة ينتجها الآخر تكون ملائمة لمجتمعاتنا،وإن كان لدينا ما يبرر تمريرها والإقتناع بمنطقيتها،ولا نستطيع أن نحكم عليها كونها مشبوهة أو تتعارض مع هويتنا الفكرية ولا تنسجم مع طبيعة تفكيرنا،إلا من خلال الحوار،وسنصل إلى نتيجة نقتنع بها ونقع برؤانا الآخرين،بأقل ما ينتج من أضرار قد يسببه الصراع ويؤثر فيه الاختلاف. لقد خلق الله البشرعلى اختلاف في آرائهم ومعتقداتهم وأفكارهم-ولو شاء ما أختلفوا ولا أقتتلوا بعد أن عرفوا الحق، ولكن الله يفعل ما يريد-، والتطرف والتعصب لفكر ما أو دين أو عقيدة بعينها،ليس حكرا على أمة دون أخرى،ولا ثقافة متقدمة أو متأخرة دون سائر الثقافات إن وجود أفراد في المجتمع، تختلف توجهاتهم وانتماءاتهم،وتتباين أفكارهم التي يؤمنون بها ويتحمسون لها، يجعل من التعددية الفكرية، سمة لثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه،ويهيئ لهم حوارا وطنيا يفضي إلى التوافق والإنسجام والإئتلاف،حيث إن أطراف الحوار على اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم سيتأقلمون،مع هذا الإختلاف،ويقتنعون بمسألة التنويع الفكري وبإيجابيات التعددية الثقافية،وهو ما يحقق بالضرورة منتجا ثقافيا أو فكريا متنوعا، تتبلور فيه مختلف الأفكار وتتجلى في فضاءاته الكثير من الرؤى،في حوار نزيه وصادق مع أنفسنا أولا، ومع الآخرين دائما.ومتى ما أتفقنا على أخلاقيات الحوار وأدبياته،فإننا سنصل بإذن الله إلى نتيجة حتمية، تحقق لنا أمننا الفكري وتنوعنا الثقافي وسلامة ووحدة أفراد مجتمعنا.لأن أزمتنا الثقافية تكمن في افتقارنا لنموذج ثقافي نجعله حجتنا في حوارنا مع الآخرين،وحين نفكر في البحث عن نموذج مستقبلي،لابد من أن نضع استراتيجية موحدة وواضحة لخطابنا الثقافي.وهو خطاب علينا أن نؤكد أنه مستقل بكياننا وهويتنا،ولا يخضع للمؤثرات الخارجية وإملاءات الآخرين،ويتقاطع بشدة مع أي خطاب يتم فرضه أو ارغامنا عليه.لأن جسد الثقافة العربية لا يكون في صحته وعافيته،إلا من خلال خطاب ثقافي يؤيد التفاعل مع ثقافة الآخر ويتحاور معها ولكن يأخذ حذره بحيث يصب كل تغيير أو إصلاح في مصالح الأمة ويعزز من هويتها.ولكي تتخطى أمتنا أزماتها الثقافية ومأزقها الفكري،لابد من تأصيل فعاليات الحوار بين فئات المثقفين على اختلاف أطيافهم وانتماءاتهم،لنكون أصحاء على قدر كبير من الوعي والإنتماء في حوارنا مع الآخر،ونكون مقتنعين جميعا بوحدة خطابنا،ومتفائلين بمستقبل يبشر أمتنا بخير.إن أية خطة أو مشروع لتوحيدنا ثقافيا،لابد أن يكون من خلال مشروع قومي أو وطني له استراتيجيته،وإذا كنا نضع أمامنا نتائج مسبقة أو متوقعة للحفاظ على الهوية والأصالة،فإن علينا أن نضع في حساباتنا ما سيواجهه مشروعنا الثقافي من ثنائيات مفترضة وصراعات متوقعة لوضع حلول للمعادلة الصعبة في الثابت والمتغير،والأصالة والتحديث. في معظم لقاءات حوارنا الوطني التي عقدت في ندن المملكة في بداية هذا يؤكد المشاركون من الأدباء والمفكرين في ندواتهم وحواراتهم على أنه إلى الآن نجزم ونقول أن النخبة بمختلف أطيافها قد أخفقت في صياغة خطاب ثقافي وطني، ويقع على المؤسسات الثقافية والأدبية والعلمية،المسؤولية كاملة في اسهامها في أن تجعل من التنوع الثقافي والإختلاف الفكري في مجتمعنا،مفيدا ومثمرا، وجعله مصدر قوة لمجتمعنا،لأننا إن فشلنا في توحيد خطابنا في الداخل، فإن ذلك حتما سيعيق وصول خطابنا للآخرين. [email protected]