ليس في العنوان تناقض! فبداية صيامنا صحيحة إن شاء الله بنص الحديث الشريف الذي معناه أن الصوم يوم يصوم الناس. كما كان الهلال مساء الخميس الماضي 29/8/1433ه فوق الأفق. يتوافق ذلك مع معيارَي مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لبداية الشهر: حدوث الاقتران بين الشمس والقمر قبل الغروب وبقاء الهلال فوق الأفق ولو للحظات. أما الخطأ فهو الأخذ في إدخال شهر رمضان المبارك هذه السنة بشهادة المجموعة المعروفة في حوطة سدير التي زعمت أنها رأت الهلال بعد دقيقة من غروب الشمس! وهناك معطيات علمية دقيقة تنفي صحة هذه الشهادة: 1- كان ارتفاع الهلال لحظة غروب الشمس في المنطقة التي يتراؤون فيها نصف درجة. ولا يسمح هذا الارتفاع برؤيته. ويخالف الزعم برؤيته قول ابن تيمية: “وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى”. 2- كانت نسبة إضاءة الهلال 0.26 (ستة وعشرون من واحد في المائة). ولا تسمح هذه الإضاءة برؤيته لأن شعاع الشمس يجعله أقرب إلى العدم. 3- إن أحدا من أعضاء اللجنة الرسمية التي كانت ترصد من المكان نفسه لم ير الهلال على الرغم من استخدامهم أحدث الوسائل الراصدة، ولم تره اللجان الخمس الأخرى في مناطق مختلفة من المملكة. 4- إن أحدا لم يره في العالم الإسلامي كله في تلك الليلة، مع خروج الجماعات لهذا الغرض، لا بالعين المجردة ولا بالمناظير المقربة ولا بالأجهزة الأكثر حداثة الأخرى. ويمكن الاطلاع على تقارير الراصدين في موقع المشروع الإسلامي لرصد الأهلة. وتشير هذه المعطيات كلها إلى أن تفرد هذه المجموعة برؤية الهلال دليل قاطع على أن شهادتها واهمة. وكنت كتبت مقالا بينت فيه أن مزاعم الأستاذ عبدالله الخضيري الذي يتزعم تلك المجموعة وادعاءاته الكثيرة غير العلمية وغير الدقيقة لا تجعل أي ملاحظ يطمئن إلى شهادته (“الشاهد يتحدث”، الوطن، 20/9/1427ه). ويكفي أن يشاهد القارئ الكريم تسجيلا على “اليوتيوب” لمحاضرة ألقاها الأستاذ الخضيري مساء عيد الفطر الماضي في مدينة جلاجل ليعرف أن ادعاءاته لا حدود لها، وهو ما يجعل الشك في شهادته أقرب من قبولها. وكان الأستاذ الخضيري ومجموعته هم الشهود العدول الوحيدين الذين ظل المجلس الأعلى للقضاء سابقا والمحكمة العليا إلى الآن يعتمدان شهاداتهم. ومما يشهد بمخالفة شهاداتهم الواهمة لحقائق الهلال الطبيعية الإحصائيةُ التي أوردتها في مقالي الأسبوع الماضي عن النسبة العالية للخطأ في شهاداتهم خلال خمسين سنة. وكانت شهادة الخضيري الواهمة بدخول شهر رمضان 1404ه وخروجه السببَ في صيامنا رمضان في تلك السنة 28 يوما! وبلغت نسبة الخطأ في رؤيته هو ومجموعته منذ تلك السنة إلى 1429ه 77% (عدنان قاضي: الأهلة: نظرة شمولية ودراسات فلكية: خمسون عاماً لأهلة رمضان وشوال وذي الحجة، (جدة، كنوز المعرفة، 1430ه). ويتناقض احتكار هذه المجموعة للعدالة مع القول الذي يكرر دائما بأن العبادات الإسلامية مرتبطة بعلامات واضحة يستطيع رؤيتها أكثر الناس. فإذا كان الأمر كذلك فالسؤال هو: لماذا لا يرى الهلال، كل عام، إلا هؤلاء؟ ولماذا ترد شهادة المتخصصين السعوديين الثقات الذين يستخدمون أدق أدوات الرصد الحديثة؟ إن التكرار المفرط لقبول شهادة هذه المجموعة التي عُرفت بالوهم في مقابل الرفض المطلق لشهادة المتخصصين الموثوق بعلمهم ونزاهتهم يثيران التساؤل والعجب. واللازمة الأبدية التي تكرر في تسويغ الأخذ بشهادات هذه المجموعة القول بأن هذا إعمال للسنة النبوية الشريفة. وهذا اتهام مباشر للقائلين بالاستعانة بالحساب الفلكي في التثبت من ولادة الهلال بعدم توقيرهم لها. وهو اتهام غير صحيح ألبتة. ويشهد بعدم صحته أن التوصية الأولى من توصيات مؤتمر المجمع العلمي الفقهي الذي عقد في مكةالمكرمة، وأشرت إليه في مقالي السابق، تنص على: “الأصل في ثبوت دخول الشهر القمري وخروجه هو الرؤية، سواء بالعين المجردة أو بالاستعانة بالمراصد والأجهزة الفلكية، فإن لم ير الهلال فتكمل العدة ثلاثين يوماً”. فالعلماء المسلمون المتخصصون في الشريعة والفلك القائلون باستخدام الحساب الفلكي لا يقلون تمسكا بالسنة، والقصد الأول لعملهم حمايةُ السنة من تلعُّب الواهمين الذين جعلوا المملكة موضوعا للسخرية في العالم الإسلامي. وقد كشف الشيخ صالح الفوزان في مقال نشرتْه “الجزيرة” (29/8/1433ه) أحدَ الأسباب التي تكمن وراء رفض بعض مشايخنا الفضلاء للحساب الفلكي في التثبت من الهلال. فقد كتب: “وفي هذه الأيام نشرت الصحف أنه تستحيل رؤية الهلال ليلة الجمعة، هكذا حكموا على المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، وكم مرة قالوا مثل هذا الكلام، وحصل خلاف ما يقولون؛ فرُئي الهلال في الليلة التي نفوا رؤيته فيها؛ وذلك لأن الرؤية في الغالب لا يدخلها شك، … والحساب عمل بشري، يدخله الخطأ والنقص”. أما الحساب الفلكي فليس من علم الغيب؛ فهو علم يقوم على معادلات رياضية دقيقة مكَّن الله بها الإنسان من الكشف عن القوانين التي أودعها في الكون. وربما لا يعرف الشيخ الفاضل هذه المعادلات، لكن هذا لا يجيز تسخيفها. ويتنافى هذا مع ما يقوله ابن تيمية، في الفتاوى، من كلام واضح عن دقة الحساب. وكنت آمل ألا يحتج الشيخ الفاضل بمخالفة إثبات المجلس الأعلى للقضاء في الماضي والمحكمة العليا لدخول الشهر في السنوات الأخيرة لقول الفلكيين عن واقع الهلال. ذلك أن السبب في مخالفة الحسابات الفلكية الدقيقة هو شهادات تلك المجموعة المعروفة بالتوهم. وقبول شهاداتهم الواهمة ليس حجة على عدم صحة قول الفلكيين.وكان حريا بشيخنا العزيز ألا يحكم بعدم صحة العلوم التي لا يعرفها. وعدم معرفته بها ليس عيبا، لكن الاعتراض عليها من غير معرفة بها أمر غير سائغ. ويشهد بذلك قول ابن تيمية في الفتاوى عند كلامه على اعتراض بعض المعترضين على أمر يراه علميا: “قلت: قول هذا جهل؛ لأنه قول بلا علم، وقد حرم الله على الرجل أن ينفي ما ليس له به علم، وحرم عليه أن يقول على الله مالا يعلم،. . . فمن أين له نفي ذلك، أو نفي العلم به عن جميع الخلق، ولا دليل له على ذلك… ؟!”. كان الأحرى بالمحكمة العليا الموقرة أن تضع حدا لجرأة هؤلاء المبادرين بالشهادات الواهمة، لكنها لم تفعل، ومع هذا لا يزال الأمل بأنها ستفعل في المستقبل!