من أجمل ما في هذا الدين أنه جاء بسنة التدرج في التشريع، لأنه سيواجه أقواما عاشوا حياة مغايرة بعاداتها وأعرافها ودينها ونشأتها. فكما جاء التدرج في الصلاة وكيفيتها، وفي الخمر وتحريمه وفي القضايا الاجتماعية العريضة، وفي الجهاد وغير ذلك، جاء التدرج في الصيام. بدأ تشريع الصيام بالتخيير، فمن أراد أن يصوم صام ومن لم يرد فعليه الفدية (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين،فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام يوم عاشوراء. ثم فرض الله الصيام أياما معدودات على كل مسلم فمن لم يشأ الصيام فعليه الفدية، ومن يجد مشقة وجهدا في الصيام أو كان مسافرا أو مريضا فعليه الفدية أيضا، وقوله (وعلى الذين يطيقونه) أي الذين يطيقون الصيام مع المشقة وبذل الطاقة وليس المعنى(لا يطيقونه) وليست لا هنا مقدرة محذوفة، بل الصحيح أن يطيقونه بمعنى يجدون جهدا في الصيام مع الاستطاعة، وهذا يتفق مع قوله تعالى (فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم) فلو كان الخطاب للذين لا يطيقونه ما أمروا بالصيام هنا، فكان الصحابة رضي الله عنهم يصومون ومن لم يصم أطعم عن كل يوم مسكينا. ثم إن الله تعالى أنزل الآية الأخرى ناسخة للآية السابقة وهي قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) في معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنها نسخت التي قبلها عدا حكم المريض والمسافر، فالمسافر بالقضاء، والمريض بالقضاء أو بالفدية، وكذلك الحامل والمرضعة. كان المسلمون في بداية تشريع الصوم يفطرون بعد غروب الشمس ويأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا نام أحدهم حرم عليه الطعام والشراب والنساء ولو كان في بداية الليل بعد المغرب أو بعد العشاء، فبمجرد أن ينام يلزمه الإمساك إلى غروب شمس اليوم التالي وشق ذلك على المسلمين مشقة عظيمة. من ذلك أن رجلا من أهل قباء ظل نهاره يعمل في مزرعته فلما جاء إلى بيته بعد غروب الشمس ذهبت زوجته لتأتيه بطعام فغلبته عينه فنام فلم يستطع الأكل لأنه يحرم عليه بمجرد النوم فواصل إلى الغد فلما بلغ الظهر وقع مغشيا عليه،فأخبر بذلك سيدنا رسول الله فحزن له.وكانت مباشرة النساء محرمة طيلة شهر رمضان، فغلبت رجلا نفسه على امرأته فأتاها،فجاء إلى رسول الله عليه صلاة الله وسلامه فاشتد الأمر وأحس المسلمون أنهم سيهلكون بهذا الأمر، أراد الله أن يجعل من رمضان شهرا خفيفا على النفوس حبيبا إلى القلوب وأن يجعل من الصيام عبادة سهلة قريبة التناول والممارسة عندما جاء التخفيف بعد التشديد ويوم جاءت الرخصة بعد العزيمة، فجاء الفرج للمسلمين كالماء البارد على الظمأ (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن،علم الله أنكم كنتم تختا نون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فكان التشريع الذي استقر عليه الأمر أخيرا رحمة للعباد ويسرا ونفعا. فهذه ثلاث مراحل فرض فيها الصيام: 1 “أياما معدودات”: قيل إنها الإثنين والخميس، وقيل أنها ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل هي نفس الشهر. 2 التخيير بين الصيام والإطعام في شهر رمضان. 3 الإلزام بالصيام إلا لأهل الأعذار.