يحدث أحياناً أن نرغب في زيارة صديق قديم أو جار انتقل عنا إلى مكان آخر أو زميل دراسة أو عمل، تنتهي الزيارة ونعود بإحساس يشبه الخيبة في ذبولها الأول ويتقارب كثيراً مع الصدع في درجة التشقق الكبرى. نتساءل: لماذا لم نشعر بالفرح؟ بالرضا والامتلاء إثر تحقيق تلك الأمنية لأناس يرتبطون بحبالنا الشريانية ويومضون كأنجم فلكية في سديم الذاكرة؟ نوهم أنفسنا بأنهم قد تغيروا كثيراً؛ وجوههم، أصواتهم، ضحكاتهم، حفيف أرواحهم وانسيابية الماء في أعينهم، نقول: إنها كلها تغيرت، وإنهم ما عادوا هم ونرصفهم في مستودعات الغرباء عنا. لكنَّ حنيننا ذاك لم يكن للأشخاص بذواتهم المجردة، لم يكن لما توزعناه معهم من ذكريات، لم يكن لتيار المشاعر الإيجابية التي تجاذبتها الشحنات بيننا ولم يكن لأجل البرّ بقيمنا النبيلة تجاه الوفاء والمعروف أو العشرة كما نعبّرعنها ببساطة. ربما كان شيئاً من ذلك يصح بنسب تتفاوت في درجاتها، تتمازج في مقاديرها كما تختلط ألوان الشمس عند المغيب وكما يتدرّج الشهاب في ألوانه الضوئية، غير أن حنيننا الحقيقي كان لشيء آخر أعلى قيمة وأكثر استحواذاً.حنيننا كان للزمن الذي نظنه كتلة موضوعية تنتظرنا في المكان الذي ركنّاه ذات يوم إلى حين عودة. هيأنا له على عجل صندوقاً مكحلا بالصندل والزعفر مؤقتا إلى أن نرجع لأخذه… تركناه في بقالة صغيرة بجوار بيتنا الطيني القديم، خبّأناه بين أصابع ابنة الجيران التي أحببناها سراً، سراً حتى عنها، وأعطتنا عيناها السوداوان وعداً أنها ستحافظ عليه إلى أن نجيء، أهملناه عند عتبة باب جدنا الكبير حين كنا نقضي أغلب الوقت في مشاهدة المارّة وأحياناً في رميهم بالحجارة بلا سبب. نظن، كما نتعامل مع الكثير من قيم الحياة بالظن والحدس، أن الزمن ينتظرنا وأن ما يلزمنا فقط هو الالتفات إليه لنعود إلى ما نسميه ماضياً أو الوقوف على أطراف أصابعنا بما يسمح لنا بالتلصص عليه لنصل إلى ما نسميه ذهنياً (المستقبل). في حنيننا للماضي حنين لأنفسنا.لذواتنا التي فقدناها،تخلينا عنها، ساومنا عليها، هددناها في منتصف الطريق، امتهناها في زاوية مظلمة خصصت لرمي القاذورات، أخفيناها داخل فخار حجري، تنكرنا لها أو ابتزها منا عابر سبيل، طلبنا منها أن تجلس تحت شجرة أو تركناها أمانة عند حبيب، أو ربما هربت هي منا طوعاً. أياً ما حدث لها فهي غائبة في اللحظة الراهنة، ونحن مغيبون لإشعار زمني آخر ربما لا يأتي أو لن نصل إليه أبداً. وفي محاولتنا لاستردادها ولأجل جهلنا بالمفاهيم والمصطلحات العددية التي تخطط فيزيائية الزمن، نلجأ لاختلاق توصيفات كلامية تمثل إحساسنا بالزمن وموقفنا الشعوري منه دون ضرب أي حساب لنظريات أنشتاين النسبية، نتعامل مع الزمن بحساسيتنا الكائنة فيه، فالحنين والانتظار والقلق والأمل والذهول، على سبيل المثال، ليست مجرد مفردات لغوية نحدد بها موقعنا في أبعاد الكون الأربعة، وليست فقط لعجزنا عن تعريف الزمن أو توصيفه واستخراج جذوره بل هي خطابات حسية مباشرة نستعيض بها ، مجهولها ومعلومها، في البحث عن القيمة الرياضية المجهولة (س) كما يرمز لها في مقررات الرياضيات. هي أيضاً تحمل كتلتها الخاصة وتسارعها الزمني الخاص بها، فالحنين لا يمكن أن يتجه بنيةً إلى غير الماضي في حين يقف الأمل في علاقة تبادلية وتكافؤية أحياناً مع المستقبل ويبقى القلق كممثل بندولي لنقطة تشوش إحساسنا بالزمن في تأرجحه وتداخله، وقدرته على التشابك أو الحياد. الإحساس بالزمن معجزة كونية هائلة! لا يمكن تعريف الزمن كما تقول موسوعة ويكيبيديا، لربما نستطيع الإحساس به وتخمينه وتقريبه فلسفياً لكننا نتضاءل أمام شبكته المتخيلة في أذهاننا البسيطة، فكيف بعلماء الفيزياء ومكتشفي الذرة والهاجسين باختراع آلة الزمن؟ (القديس أوغسطين). إحساسنا بالزمن قد ينكمش أو يتمدد، يطول أو يقصر، يثقل أو يخفّ، يتحرك أو يسكن، يتسامى أو يتكثف، ينضغط أو ينفجر، يتجزأ ويتداخل ويتجمّع أو ينزاح لكنه أبداً لا يغيب. هو أيضاً يأخذ شكل ما يفرّغ فيه؛ فيزهر أو يذبل، يهرب أو يختبئ، يتنكّرأو يغير اسمه، يتلوّن أو يبيضّ أو يعتم، لكنه أبداً لا يغيرهويته. قد يركض أو يمشي برجل عرجاء، يتأخر أو يتقدم، لكنه من المستحيل أن يتوقف. الزمن بوصفه قيمة غيبية وتركيبة نسبية مرتبط بالذاكرة في الأساس. هو نحن في هجسنا بالعمر وفي تسارعنا المكثف تجاه معطيات الحياة كلها، الزمن كالزئبق يصعب الإمساك به أو القبض على أطرافه أو تجريده من أي وحدة إنسانية أو كونية أخرى، وهو أعقد ما يكون حين انشغالنا بالبحث عنه بدلاً من العيش فيه! كثيرة هي مقولات الفلاسفة والمفكرين والكتّاب حول الزمن، يقول باشلار: «ذكرياتنا محاطة بالواقع»، أما تشارلز ديكنز فيقول على لسان أحد أبطاله في رواية «أوقات عصيبة»: «إن أنتَ وضعتَ ساعة في السجن فلن يتوقف الزمن». دافنشي يردد:«الزمن يقف بعيداً عنك ما لم تبدأ في استخدامه»، أحدهم يقول «الزمن مجاني لكنه لا يقدر بثمن». آخر يقول: «الحكمة من الزمن هي ألا تحدث الأشياء كلها مرة واحدة» وأنشتاين يعترف أن ما يهمه أكثر هو المستقبل لا الماضي «حيث إنني أنوي أن أعيش فيه».. وغيرها من ملايين الاقتباسات التي تنظّر حول الزمن أو تفلسفه وقد تودي بأصحابها للانتحار أو الجنون أو العظمة. أنت .كيف يبدو الزمن في مخيلتّك؟ هل هو كروي أم مستقيم؟ هل يسقط من الأعلى إلى الأسفل أم إن ما يحدث هو العكس؟ هل هو نهر يسيل أم زهرة تنبت؟ وكيف تتخذ أيام الأسبوع مجسماتها في ذاكرتك؟ هل هي متسلسلة ومترابطة؟ مفككة ومتباعدة قليلاً عن بعضها؟ أتتخذ شكل سلّم أم طريق أم لعلها حلقات متداخلة؟ بالمناسبة: عنوان المقال مأخوذ من برنامج يومي على قناة الجزيرة الوثائقية هو «حمية نسيها الزمن».. لأوقاتكم كل البهاء والطيب.