“وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار”. يُعطَى كُلُّ فرد كتابَه بيمينه أو بشماله، ويدخل أهل الجنة جنتهم ويساق أهل النار، لتُوصَد عليهم “نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة” ويتلاومون، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويطلب كل فريق زيادة عذاب الآخر. فئة من هؤلاء – رغم حرارة النار- لأن طبعها إعداد القوائم البشرية بالنوايا والمصائر لا ينسون البحث عمن كانوا يظنونهم الأشرار. هم مقتنعون بسلامة تقييمهم للناس لدرجة أنهم قد يشكون في الله تعالى لا في تصنيفهم: هل “زاغت عنهم الأبصار” فنسي الله تعالى أن يضعهم في النار التي جزمنا بأنهم مواقعوها. اجتهدوا ونسوا أن تصنيف البشر، والانشغال بإصلاحهم (حتى لو صدقت نيته) مضر. “إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون”. أولئك الذين ظننت بهم السوء، وربما تحمَّس بعضكم باسم الدين فضيق عليهم، وسامهم العذاب سخرية واستهزاء، هم في الجنة. العنف اللفظي ثم الرمزي لتقييد اختيارات البشر موجود منذ الأزل، واستخدم حتى ضد الأنبياء “أهذا الذي يذكر آلهتكم”. عام 1990م في بلدتي النائية اختلف يوم دراسي عن غيره وانطبع في ذاكرتي بسبب قائمة. كنت في معهد المعلمات، وأوراق منسوخة طلعت من حيث لا ندري، لتتخاطفها الأيدي بأنفاس مبهورة. واضح من خربشات حوافها الكم المهول لإعادة النسخ قبل أن تصلنا، قائمة بأسماء نساء سعوديات من عائلات معروفة. – هؤلاء نساء “…” وألحق بالأسماء أسوأ قذف لمحصنة. – ماذا فعلن؟ – خرجن بسيارات في إحدى المدن ورمين براقعهن (البرقع هنا لضرورة تكييف الحكاية محلياً). – يقال إنهن يجلسن مع رجال في بيوتهن ويشربن! الكلمات مرعبة لقرية لا تستطيع أن تتخيّل امرأة تدخن، فكيف بها تشرب؟! سألت عن الأرقام بجوارها. – هذه هواتف محارمهن لنتصل وننكرعليهم. سأعترف يا سادة أن أول كلمة سمعتها في صحوتنا هي “ننكر”! بعد أيام خلت ساحتنا من نسخ للقائمة ظلت تتجدد فيسقط اسم ويرتفع آخر لأعلى القائمة وتضاف أرقام جديدة، لا أحد يهتم في مدرستي بتسجيلها لأن الصفر في الهاتف كان خاصية للدوائر الحكومية وبيت الأمير (العمدة). بعد سنوات أثير موضوع القيادة مجدداً في قريتي، وأنا معلمة في ذات المدرسة التي تخرجت منها، وأبديت ارتياحاً للفكرة، رغم أن الصحوة خلال المدة السابقة علمتني بطريقة مؤلمة ألا أقول ما أفكر فيه. زميلة بجانبي – كانت أمها تقود الجيب – صاحت: “الله لا يقوله”. لأنهي النقاش قلت لها: لو قدت سيارة فلن أركبك معي. غادرتها وهي تقول: ولن أركب. بعدها بسنوات قابلت الدكتورة سعاد المانع، لتحرقني ذكرى القائمة وأنا أمام امرأة جمعت العلم والأدب وبنقاء قابلت التشويه بالعطاء. في مناسبة تالية رأيت الدكتورة عزيزة المانع، ثم الدكتورة فوزية البكر، وتخجلني القائمة وكأني كاتبتها، أرى نساء لم يتوقفن لحظة عن العطاء لمجتمع أراهن أبشع وجوهه فصبرن. ثم في صدفة جميلة تعرفت بامرأة ناجحة جداً في عملها، وجاء حديث سنة 90 19فقالت لي: كنت سأخرج معهن. – ثم..؟ – كنا في الجامعة وأبلغوني باختبار مفاجئ، فحسم الأمر ولم أذهب. اختبار جامعي أخرجها من القائمة، وتساءلت ولم أجرؤ على سؤالها: إن كانت تعتبر نفسها محظوظة؟ هي الآن مطلقة؛ خلعت رجلاً لم تعد تحتمل بخله المادي والعاطفي (وهذه مشكلة لن تفهمها من النساء إلا من جربت رجلاً يده مغلولة ولسانه يابس). صاحبها جرجرها في المحاكم سنتين ثم حرمها من أولادها، فلم ترهم منذ ثلاث سنوات! في بلدتي قديماً كانت المرأة إن لم تطق عشرة رجل دخلت مجلسه ورمت برقعها في حجره، وخرجت منه بائنة وقد تقابله في السوق أو عند الحطب بلا ضغينة. مرت سنون ببلدتي صار رجال يمشون في الأسواق وبأيديهم عصي يضربون بها النساء إن ارتفعت عباءاتهن قليلاً، ويضربون كل عامل يتأخر عن المسجد دون أن يسأل عن ملته. معها تفشى نسخ رفيقتي بالمدرسة “الله لا يقوله” أكثر في المجتمع بطوله، وصار كل جديد بدعة، ومن يأتي بها أو يؤيدها سيعاقب، يضطهد، يهمش، وقد يرمى بتهم كثيرة، تنساها ذاكرة المجتمع المخرومة، ولا ينساها المجروح. “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.