برغم الخلاف الجذري الجوهري مع فكر الدكتور فؤاد زكريا رحمه الله، إلا أنه أعجبني بما قاله في مقدمة كتابه (نظرية المعرفة) وهو يقول: «إنني لا زلت أذكر نظرة الاستغراب التي نظرها إلي أحد الأساتذة وهو يناقشني في البحث الذي تقدمت به لدرجة الدكتوراه، ودافعت فيه عن وجهة النظر (المعتادة) هذه. لقد سألني: أتعني حقاً أن تدافع عن وجهة نظر الإنسان المعتاد؟ وكان في تساؤله دهشة لا تقل عن تلك التي يبديها عالم الرياضة (الرياضيات) إذا سمع أحداً يعترض على صحة جدول الضرب»!. هذا النزوع نحو مخالفة السائد ليس بجديد. فمن عجيب آراء الفلاسفة التي لم يوافقهم عليها لا العلماء التجريبيون ولا الكثرة الكاثرة من بني البشر، هو قول (بيركلي) إن العالم الخارجي غير موجود، وأنه ذاتي. بمعنى أن الإنسان هو الذي يعطيه الوجود عندما يشير إليه، فهذه الشجرة موجودة فقط عندما أنظر إليها، وصوت الرعد موجود فقط عندما أسمعه وهكذا. وأن كل الأشياء المادية لا وجود لها إلا في أذهاننا نحن. بيركلي نطق بهذا الهراء بنيّة حسنة، فقد كان يريد أن يدافع عن الدين أمام الفلاسفة الماديين الذين قالوا لا يوجد إلا المادة. فصارت مقولته موضوع سخرية لأساتذة الجامعات في بريطانيا إلى يومنا هذا، وحربة يستخدمها الماديون ضد المثاليين والميتافيزيقيين، كما أنها صارت مثالا صارخا للرأي المخالف للسائد ولما اجتمع البشر على إثباته عبر العصور. وقد أشار البريطاني ديفيد هيوم إلى هذه النزعة في كتابه (a treatise of human nature) أطروحة في الطبيعة البشرية ، عندما قال إن الفلاسفة يسارعون إلى الترحيب بأي شيء تبدو عليه سيماء الغرابة، ويخالف أول أفكار البشر وأكثرها تلقائية، ويعدّون هذا من علامات سمو علمهم الذي يستطيع كشف آراء بعدت إلى هذا الحد عن وجهة النظر الشائعة. إذن فجاذبية الآراء أحياناً لا تكون في كونها تمثل موقفاً علمياً أو فلسفياً، بل إنها قد تستمد جاذبيتها من مجرد تحقيقها للذة الإعجاب والإدهاش والتصفيق، وبحيث تفرح وتشبع عواطف الذهن -إن صح التعبير- وتتيه سعيدة بهذه الانفعالات المبهجة بحث لا يكون هناك أدنى مجال لإقناع العقل السكير بمجده، بأن لذته قد لا يكون لها أدنى أساس من الصحة. هذا الواقع اليوم في سماء الفلسفة بل وفي سماء الثقافة كلها. أصبح من الشائع التفريق بين الفيلسوف وغير الفيلسوف والمثقف وغير المثقف بطريقة لا تخلو من جفاء وتعالٍ وتكبّر. فالأولون لهم أبراجهم العاجية التي يطلّون منها على «العامة» ساخرين من عقولهم، معتبرين أن أول الخطوات على الطريق أن يخالف وجهة نظر هؤلاء العامة، وهذا الرفض هو أول شروط الانضمام لركب الفلسفة والفكر والثقافة. وبحيث يظل هؤلاء محبوسون مع طائفتهم معزولون عن العالم -كعزلة نظرية بيركلي- وبحيث يستخدم هؤلاء لغة وحججا ومصطلحات لا يعرفها غيرهم وكأنها سر من أسرار المهن التي يتكسب منها أصحابها ولا ينبغي أن يطلع عليها إلا أربابها وكأننا نتحدث عن سر طبخة في مطعم ناجح! مخالفة السائد -بحد ذاتها- ليس موقفاً علمياً ولا فلسفياً. ولا يمكن اعتباره شرطاً أو رقماً في خطة علمية لمشروع بحث في أي مجال كان. إنما هي نزعة نفسية وليست أكثر. نزعة متعالية متكبرة، حصرت المعرفة في ممر ضيق، ولو استطاع الإنسان أن يتجاوز عقلية الممر لربما كتب له أن يكتشف صحارى من المعرفة، بل أكواناً منها. إنها نزعة نفسية تميل نحو الشعور بالتميز عن الآخر والنظر له من علو، من خلال الإحساس بالتفوق. وهذه آفة قد يبتلى بها الذكي من المثقفين والفلاسفة فتصبح هي قائده بدلاً من القصد الصادق نحو المعرفة. وإذا كان الباحث عن المعرفة صادقاً في دعوى التجرد، فعليه ألا يحبس نفسه في ثنائية العامة والخاصة التي وصفت لك. فالحكيم -الحكيم حقاً هو الذي ينظر لكل البشر الذي يقابلهم في حياته، على أنهم مشروع- مدرس خصوصي له، بما في ذلك، كل الناس الذين يلتقي بهم في الشارع، وحتى الأطفال الصغار. كل هؤلاء لديهم أشياء يمكن أن يتعلمها المرء منهم إن استطاع أن يتجاوز الكبر والخجل.