«ليس على الفيلسوف أن يطيع غيره، بل يجب أن يكون هو المطاع». أرسطو (الميتافيزيقا - 2) لا حاجة لتكرار مقولة أن «لا مؤشر يقيس التقدم الثقافي والرقي الحضاري للمجتمع، كل مجتمع، مثل مؤشر الفلسفة». وكلمات ديكارت في كتابه «مبادئ الفلسفة» تمثل هذه الفكرة تماماً، يقول: «حضارة الأمة وثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها. لذلك فإن أجلّ نعمة ينعم بها الله على بلد من البلدان هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين». والفلسفة مؤشر متميّز هنا بمعنيين: أولاً، الموقف من الفلسفة في هذا المجتمع، موقف المجتمع في شرائحه الاجتماعية وقطاعاته الثقافية من التفكير الفلسفي والأفكار والإسهامات الفلسفية، ثانياً، قراءة الفلسفة لهذا المجتمع، أو بمفردات أكثر دقة، تحليل وضعية هذا المجتمع باستخدام معايير ومناهج فلسفية. تراجع عالمي قبل محاولة الإجابة، وتوقع نتائج سلبية في ما خص مجتمعاتنا العربية، تجب الإشارة إلى ما بات موضع عشرات الدراسات والإحصاءات التي تؤكد معاناة الفلسفة على مستوى عالم اليوم بوجه عام. فمنذ عقدين ونيّف، وتحديداً منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي، تدلّ معظم المؤشرات إلى تراجع حجم الحضور الفلسفي وقوته في معظم المراكز العالمية المهمة، وبخاصة في أميركا الشمالية وأوروبا والمجتمعات الآسيوية ذات النمو الاقتصادي والتقني السريع. وليس من باب المصادفة أن يتراجع حضور الفلسفة ويتضاءل نفوذها – وبخلاف ما كانت عليه بعامة ومنذ الخمسينات على وجه الخصوص - في ظل السيطرة المتسارعة لاتجاهين عالميين، متناقضين في ما بينهما ولكنهما متفقان في موقفهما السلبي من الفلسفة، وهما: 1) عودة الروح وبقوة إلى الاتجاهات المحافظة السياسية والاقتصادية والدينية، و2) اشتداد هيمنة العقل التقني/ الأداتي على المؤسسات الاجتماعية وعلى دوائر التفكير والإنتاج العلمي والثقافي في المجتمع. هذه عموماً هي المقدمات العالمية، التي انضافت إلى ما لدينا من عوامل سلبية، ليصنعا ما يسمّيه غير كاتب فلسفي عربي: «محنة الفلسفة في العالم العربي». لا أود أن أثقل على القارئ بعشرات النصوص التي يعرف معظمها، وأكثر منها، إنما سأكتفي بنص قصير قرأته على موقع أحد المدونين الفلسفيين على الإنترنت، وعلى سبيل المثال فقط. يقول المدوّن على موقعه بتاريخ 30\12\2010 ما يلي: «لا إقبال للناس على الفلسفة، وليس لهم علاقة بها من قريب أو بعيد... فلهم عالمهم الذي يعرفونه، ويحسّون به، ولها عالمها الذي لا يعرفونه ولا يحسّون به، والفرق بين العالمين هو الفرق بين عالم العامة وعالم الخاصة.... والمفارقة هي أن واقع الحال في هذه العلاقة الغريبة لا يصدق على عموم الناس فحسب، بل يكاد يجري ويمتد حتى إلى المؤسسات الجامعية والوسط الجامعي الذي لا يعرف للفلسفة أثراً وتأثيراً على هذه المؤسسات وعلى هذا الوسط. لقد أصبحت الفلسفة غريبة حتى في معاقل العلم والمعرفة، غريبة على اللسان والبيان، فلا يكاد أحد يأتي على ذكرها، ولا تكاد تخطر على بال أحد، ولا تجول في فكر أحد، وكأن الفلسفة باتت من المسميات القديمة البالية وغير المألوفة، ومن ينطق بها يشعر بغرابة ويوصف بالعودة إلى الأزمنة القديمة، فكأن الفلسفة في نظر البعض تناسب كبار السن ولا تناسب الشباب لأنهم أميلُ إلى عالم السرعة والبساطة والحركة... وأن من يشتغل بها من الشباب يغلب عليهم الانغلاق والانعزال والبعد عن متع الحياة ومباهجها». ربما بدا التوصيف في هذا النص إنشائياً تعميمياً أكثر مما هو موضوعي وعلمي، لكن من يقارب السائد في الحياة العربية الراهنة (الواقعية لا النظرية) من قيم مستقطبة ومبادئ تفكير ومناهج سلوك وآليات عمل، داخل جدران الجامعات والمراكز العلمية وخارجها، لا فرق، سيجد أن الأمور في الواقع اليومي وفي جميع مجتمعاتنا العربية هي من النوع الذي جرى وصفه أعلاه. وقد قمت شخصياً بتنفيذ بحث مقارن في أربع جامعات عربية أجد أن نتائجه لا تختلف كثيراً عن التوصيف السابق. أجري البحث الحقلي هذا طوال عام 2010 على أقسام الفلسفة الخمسة في الجامعة اللبنانية، مقارنة بأحوال الفلسفة في ثلاث جامعات عربية مشرقية أخرى، هي جامعة القاهرة وجامعة عمّان وجامعة دمشق، لجهة الإقبال والبرامج والنتائج. وهذا المجال المكرّس لليوم العالمي ليس المكان الملائم لعرض النتائج كاملة. وجهة نظر مغايرة في وسع البعض، مع ذلك، أن يحاجج في النتيجة أعلاه، بالقول إن الوقائع صحيحة ولكن النتيجة لا تلزم عنها بالضرورة. ما يلزم عن الوقائع هو تضاؤل «الكمّ» الفلسفي في المدارس والجامعات والدوائر الثقافية والمجتمع عموماً. لكن الفلسفة في النهاية وكما كتبت تاريخها قبل ست وعشرين قرناً ليست كمّاً، بل هي في الأصل والتعريف (وبالإذن من التعريفات المادية): نوع. أي شكل محدد من التفكير وطريقة خاصة في النظر، ثم إذا بدا ذلك ممكناً محاولة إيجاد وقائع تتطابق مع الأفكار. بالمعنى الثاني هذا، الفلسفة هي من جهة، المراجعة التحليلية والنقدية للأفكار والوقائع، والإنتاج المنهجي والمبدع من جهة ثانية للأفكار والمواقف والنظريات وللوقائع – لمن يرغب أو يرى ذلك ضرورياً. الفلسفة، بهذا التعريف أو النوع من الفهم، ليست إلا من باب فرعي هذا الكم من المنشورات الفلسفية، أو ذلك العدد من الطلاب والأساتذة. هي ليست على وجه التحديد شأناً اجتماعياً أو معطى تربوياً. لذلك تتغير المجتمعات وأنظمة الاقتصاد والسياسة وتستمر مع ذلك مناهج سقراط في الحوار الحر، ونظرية أفلاطون في المثل، ومنظومات أرسطو في المنطق، وعقلانية إبن رشد، ومنهجية إبن خلدون، ونقدانية كانط، وديالكتيك هيجل، ومقاربات ماركس، وانتفاضة كل من كيركجارد ونيتشه، وسواهم. لم يكن أي من ذلك نتاجاً أوتوماتيكياً لشروط عصره، إلا بكثير من القسر وشق النفس، بل إن النظريات تلك هي التي خلّدت أعصرها وأزمنتها ومجتمعاتها. من يستطيع أن يتذكر اليوم اسم الحاكم في عصر سقراط، أو أفلاطون؟ أو شكل المجتمع في عصر الفارابي وإبن رشد وإبن خلدون؟ أو نوع النظام الاقتصادي في أعصر كانط وهيجل وكيركجارد ونيتشه؟ وقس على ذلك. وننقل عن كارل ياسبرز، الفيلسوف الألماني الذي عارض النازية وغادر ألمانيا أواخر الثلاثينات، فكرة من نقاش له مع ماركسي، قال: «ما الذي يربط المذهب الكانطي في الحرية وتصوراته التي تتعلق بالإنسان كإنسان بهذه الطبقة الاجتماعية أو تلك»؟ الفلسفة، والإسهام الفلسفي، وفق وجهة النظر الثانية هذه، ليسا إذاً الدرس الفلسفي التعليمي الذي نتعلمه في المدرسة الثانوية والجامعة، ولا الوصفة العلمية أو المجتمعية التي نشتريها من المجتمع بالمراقبة والتجربة والخبرة. نتعلّم بالتأكيد من الدرس الفلسفي، كما من الظروف والشروط الاجتماعية والاقتصادية، ولكن أن نبدع فلسفياً فليس بذا ولا بذاك. لهذا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن استقراء تاريخ الفلسفة يسمح بالاستنتاج أن فعل الإبداع الفلسفي مفارق إلى حد كبير للسياقات التاريخية والمادية والاجتماعية، بل هو يعمل كما يبدو وفق ديالكتيك إبداعي خاص – يغتني بكثير من العناصر والعوامل لكنه لا «ينوجد» بها. يقود هذا التعليل إلى نتيجة ثانية، وهي أن لا جدوى في التحليل الأخير من جعل ضعف الإبداع الفلسفي العربي وتأخره منذ فترة مجرد نتيجة تلزم عن انحطاط المجتمعات العربية في العقود الأخيرة. هناك أسباب ومعوقات أخرى، يمكن ويجب البحث عنها. فماذا عساها تكون هذه الأسباب والمعوقات؟ أهي في المفكر الفلسفي العربي نفسه، وتعذّر الالتزام الدقيق بالتعريف الأرسطي \الأفلاطوني المتوافق عليه للفيلسوف، باعتباره ذلك المفكّر الموسوعي، المنهجي، النقدي، الحرّ، الذي كرّس جهوده للبحث، في المبدأ وقبل أي شيء إضافي، في الإنسان من حيث هو إنسان؟ أهي في غياب حريات التفكير والنقد والاعتراض عن مجتمعاتنا منذ خمسين سنة ونيّف، وبحيث يشعر المفكر والمثقف والكاتب أنه كان أواخر القرن التاسع عشر، وسحابة النصف الأول من القرن العشرين، أكثر حرية وأكثر قدرة على التفكير النقدي، والتعبير عن أفكاره مما أصبح عليه في العقود الأخيرة؟ أم هو الخوف (البشري الطبيعي والمفهوم) حيال الضغوط غير المحتملة وغير المعقولة التي تعرّض لها المفكر الفلسفي العربي منذ مطلع ستينات القرن العشرين من كل صاحب سلطة أو سطوة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وبالتعاقب والتناوب؟ فالمفكر أو الكاتب أو الروائي الخارج توّاً من ظلام سجن النظام السياسي في بلده، ينتظره أمام السجن ظلاميٌ رجعيٌ أشدَ هولاً يُعملُ سكينه أو مسدسه في ما بقي من جسد ذلك المفكر أو الكاتب أو الروائي – والأمثلة كثيرة وتحفظونها عن ظهر قلب ونجيب محفوظ ليس غير واحد من هؤلاء فقط! وعلى ذلك هل من مفكر أو كاتب أو شاعر مبدع في العربية، وفي كل حقل، إلا وهُدد في رزق أولاده، وإذا كابر أو تمرّد جرى رميهُ إما جسداً نحيلاً في سجن، أو جسداً مصاباً على قارعة طريق، أو جسداً وروحاً مصابين حزينين، كلاهما، في المنافي! والأمثلة تعرفونها فرداً فرداً. وبعد... هل نلومُ المفكر الفلسفي العربي الآن، أو منذ بضعة عقود، لماذا انكفأ عن الإبداع؟ ولماذا لا يدخل العالمية فيُكتبُ عنه في الخارج وتنقلُ أعماله إلى اللغات الأجنبية الأكثر نشراً واحتراماً للكتاب الفلسفي من لغتنا ومن ناشرينا؟ ماذا ستقدم المتغيرات الحالية؟ أقول هذا الكلام ومن دون أن نعرف حتى الآن، وعلى وجه الدقة، ما إذا كان الذي يجري من متغيرات سياسية واجتماعية عربية عاصفة سيوسّع من مساحة حريات التفكير والتعبير والنقد من خوف في العالم العربي؟ أم أننا سندخل حقبة جديدة قديمة، ولو في زيّ ديموقراطي هذه المرّة، من الاضطهاد والتكفير والإقصاء والتكفير لكل من يخالف أو يعارض ما هو سائد من أفكار أو ما هو متسيّد من أصحاب سلطة، كل سلطة؟ نأمل أن ينتصر الاحتمال الأول، فتستدرك المجتمعات العربية والثقافة العربية والفلسفة العربية ما فاتها من حلقات التنمية والتقدم والحرية، وتستأنف من ثمة مسيرة الإصلاح والتحديث التي كانت قد بدأتها في القرن التاسع عشر. والمطلب هذا ليس مستحيل التحقق، فالعقلية العربية ليست مجافية بالطبع للتفكير الفلسفي والإسلام ليس بالضرورة وفي الأصل معادياً للفلسفة، كما زعم رينان ورهط من المستشرقين العنصريين في غير زمن. وأخيراً لا أضيف كثيراً إذا لاحظت أنه ما من نص ديني – في ما أعلم – قد تضمّن من طلب التفكير بل الأمر بالتفكّر بالمقدار الذي احتواه القرآن الكريم! فلنكفّ إذاً عن الزعم أن العقلية العربية و/ أو الإسلام يعيقان التفكير والإبداع الفلسفيين. ما يعيقُ في النهاية التفكير الفلسفي الأصيل، وكل تفكير، هو غياب الحرية. هذا هو الأصل وما تبقّى فروع وتفاصيل لا أكثر. * استاذ في الجامعة اللبنانية والنص مكتوب في مناسبة اليوم العالمي للفلسفة الاربعاء الماضي