ماذا تريد أمريكا من الدول العربية التي مرت أو لا تزال بمخاض ثوري يفترض أن ينقلها من استبداد مطلق إلى بناء أنظمة ديمقراطية؟ وما دورها حقيقة في تفجير هذه الثورات، خاصة أنه لا يزال هناك من المثقفين وغيرهم من أبناء المنطقة يطرحون تساؤلات حول دور محتمل لأمريكا فيما يجري من أحداث وتحولات؟ وما الدور المرتقب لواشنطن في تأمين الانتقال الديمقراطي أم أنها تشكل عائقا لهذا التحول؟ هذه الأسئلة طرحت طيلة أسبوع من اللقاءات المكثفة في واشنطن بفاعلين بالكونغرس ومجلس الشيوخ ومنظمات المجتمع المدني ومراكز (ثينك تانك) وخبراء في العلوم السياسية ومسؤولين بمراكز بحث، قام بها نشطاء من منظمات عربية فاعلة بمبادرة من الشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية ومقرها بيروت. وقد استقر في ذهني بعد كل هذه اللقاءات أن الساسة الأمريكان قد فوجئوا بالثورات العربية، وفي مقدمتها الثورة التونسية خلافا لمن يعتقد بأنهم كانوا وراءها أو خططوا لها. لكن ذلك لم يمنعهم من التفاعل معها تصاعديا بعد رحيل كل من بن علي ومبارك. غير أنهم في الوقت نفسه لم يطمئنوا كليا للقادة الجدد، ولا يزالون يتعاملون معهم بحذر، منتهجين أسلوب القطرة قطرة في تقديم المساعدات، مع اختلاف سياساتهم من حالة إلى أخرى. وهو ما جعل أحد الخبراء يؤكد أن الأمريكيين لم يحددوا بشكل واضح إن كانت هذه الثورات في صالح أمريكا أم أنها قد تشكل تهديدا لمصالحها؟ بالنسبة لتونس، ثقة الأمريكيين في تجربتها أكبر وأوضح مقارنة ببقية التجارب، وهم يعتقدون أن تونس قادرة على أن تتجاوز المخاطر، بل إنهم لا يترددون في التأكيد على أن التجربة التونسية يجب أن تنجح، لأنها تملك مقومات أفضل، ولأنها على الصعيد الاستراتيجي قد تشكل مثالا يحتذى من قبل مختلف الثورات المفتوحة، وإن كانوا في المقابل يضعون لذلك شروطا وينبهون لعدد من المخاطر. وفد عربي بدون دعوة كانت رسالة الوفد الذي تكون من شخصيات قدمت من المغرب ومصر واليمن والأردن وفلسطين والبحرين ولبنان، مختزلة في خمس نقاط. أولها محاولة إقناعهم أن ما يحدث في العالم العربي هو تحول تاريخي، وليس مجرد أحداث جزئية ومتفرقة. وهذا التحول له تداعياته الاستراتيجية على الصعيد الدولي التي تتجاوز الإطار الإقليمي بكثير. ولهذا السبب على الولاياتالمتحدة أن تدرك بأنها معنية مباشرة بهذه التحولات، وليس من مصلحتها الأمنية والاقتصادية والسياسية أن تفشل الثورات، وأن تنتكس محاولات الانتقال الديمقراطي. وهو ما يقتضي إحداث تغييرات جوهرية في سياساتها الخارجية من خلال مراجعة مسائل عديدة، من أهمها القبول بلاعبين جدد على الساحة الإقليمية والدولية يكون أكثر استقلالية. إلى جانب ذلك هناك ملف المساعدات المشروطة سياسيا، وقضية التعامل مع إشكالية الديون التي تثقل كاهل الحكومات الجديدة مثل الحكومة التونسية، وبالخصوص محاولة إقناع أصحاب القرار في واشنطن بمن في ذلك خبراء البنك الدولي وصندوق النقد، أن منوال التنمية في المجتمعات العربية ومن بينها تونس في حاجة إلى تعديل، لأن المنوال القديم قد أفلس وهو الذي أدى إلى الثورات الجارية. أمريكا مؤمنة بالحوار مع الإسلاميين المعتدلين لم يكن من السهل أن ينجح الوفد في إقناع أصحاب القرار في واشنطن بمثل هذه التغييرات، وذلك بالرغم من وجود تيار داخل الأوساط الأمريكية يدفع إلى مثل هذه المراجعات بعد أن أصيب الاقتصاد الأمريكي بهزات متتالية. وفي المقابل هناك اعتقاد بدأ يسود داخل أوساط الكونغرس أن المساعدات الموجهة إلى الشرق الأوسط لم تساعد على حل المشكلات، ولهذا يقترح بعضهم إلغاءها تماما. لكن ما يشغل صانعي السياسات هو صعود الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر والمغرب، والتساؤل حول مدى قدرتهم على إدارة المرحلة الانتقالية، وكذلك مدى التزامهم العملي بالديمقراطية والحريات. علاقة الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالإسلاميين اختلفت من مرحلة إلى أخرى، لكنها في كل المراحل لم تقطع الاتصال بهم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر لمعرفة توجهاتهم الحقيقية ومواقفهم من السياسات الأمريكية. وكانت ولا تزال مجموعات الضغط أو مراكز التفكير الاستراتيجي الموزعة بين يمين محافظ ومعادٍ للإسلام وأخرى صديقة للعالم العربي تتجاذب أصحاب القرار في واشنطن. لكن أحد المؤثرين الكبار والقريبين من الرئيس أوباما قد أكد في لقاء معه أن التيار الغالب حاليا في واشنطن يؤمن بالحوار مع الإسلاميين، ويعتقد بإمكانية التعاون معهم، بل ومساندتهم في هذه المرحلة الدقيقة. لكن هذا التيار يطالب في الآن نفسه الإسلاميين أن يتغيروا لكسب الثقة، وأن يدركوا أن هذه المساندة ليست شيكا على بياض، وإنما هي مساندة مشروطة. كما يرى بعض ممثلي هذا التيار أن الضغوط التي يمارسها الرأي العام المحلي وقوى المجتمع المدني على الإسلاميين للضغط عليهم هي عملية إيجابية تصب في صالح الديمقراطية وبناء الثقة. انتصار السلفيين سيؤدي إلى قطع المساعدات: بعد ثلاثين سنة تقريبا، اقتنع جزء من صناع القرار في أمريكا وأوروبا بوجود إسلاميين معتدلين يمكن الحوار معهم وقبول التعاون مع حركاتهم وحكوماتهم. جاء ذلك بعد أخذ ورد، ودراسات ومناقشات طويلة في الكواليس، وفي مكاتب المخابرات وأروقة الكونغرس، وكل الغرف المغلقة استمرت سنوات طويلة. وعندما وصلوا إلى هذه الفرضية، فوجئوا بصعود التيارات السلفية، وهو ما أخذ يربك حسابات الجهات الغربية، ويعيد الشكوك لديها. جون ماكين المرشح الجمهوري الشرس ضد أوباما في الانتخابات السابقة اعتبر في لقاء معه أن موضوع السلفيين خط أحمر، وأن الكونغرس سيتخذ قرارا بقطع المساعدات عن مصر وعن غيرها في حال وصول السلفيين إلى الحكم. وأضاف أن الشركات الأمريكية على استعداد للاستثمار في العالم العربي، لكنها مترددة بسبب الظروف الأمنية غير المستقرة. وهو يعتقد أن الثورات العربية تخطو خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الخلف. وليس هذا رأي ماكين وحده، بل إن خبيرا استراتيجيا بأحد مراكز الأبحاث الرئيسة بواشنطن أشار إلى وجود ثلاثة خطوط حمراء لا يمكن أن تتجاوزها أي إدارة أمريكية من بينها مراجعة الموقف من إسرائيل، أو القبول بإسلاميين لهم ولاء لتنظيم القاعدة. دعم محتشم لتونس تفاعل الرئيس أوباما مع الثورة التونسية بعد رحيل بن علي. وقد شدته كثيرا شخصية الوزير الأول السابق السيد الباجي قايد السبسي مما جعله يحرص على دعوته والاستماع إليه مطولا. وقد عملت الدبلوماسية الأمريكية منذ الأيام الأولى للثورة على الاقتراب من الفاعلين التونسيين الجدد ، لكن المساعدات الأمريكية بقيت دون المأمول، وهو ما يقر به الكثير من المسؤولين بالحزب الديمقراطي، بمن في ذلك وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. وهو ما ساعد السفير التونسيبواشنطن والفريق الناشط معه على بذل جهود أدت إلى عدد من الإجراءات، كان آخرها تقديم مساعدة بمائة مليون دولار. وقد تشهد العلاقات التونسيةالأمريكية خلال المرحلة القادمة مزيدا من الحركية، بالرغم من الأجواء الانتخابية التي بدأت تهيمن بقوة على الأجواء في واشنطن، وإن كان ذلك سيكون مرتبطا إلى حد كبير بمدى قدرة الحكومة التونسية على توجيه إشارات إلى الخارج أن الانتقال الديمقراطي يتجه نحو الأفضل.