تونس.. الوجه الآخر من غير «النهضة» الأطياف الإسلامية الحركية برزت في المشهد التونسي بقوة بعد الثورة، الأمر الذي لفت الباحثين لهذه الظاهرة، ومنهم رئيس منتدى «الجاحظ» صلاح الدين الجورشي، الذي رصد هذه الحركات، ومنها حزب «التحرير» الذي كان محظورا، وشارك في الثورة، ولكنه يقف ضد الانتقال إلى الديموقراطية، ولا يزال يدور في محورية الخلافة الإسلامية. كما تناولت الدراسة التيار السلفي، بوصفه ظاهرة جديدة في المشهد السياسي، وقد تعرض هذا التيار لمضايقات من النظام السابق، وربط بتنظيم «القاعدة»، وحاول السلفيون القيام ببعض أعمال الحسبة «العنيفة» مثل اقتحام أقدم بيت دعارة في العاصمة تونس، من أجل غلقه، وأججوا مواجهة ضارية مع العلمانيين. ويشير الكاتب إلى أن التيار السلفي، لم يكن له أي دور في الثورة التونسية في بداياتها، وقد يشكل إحدى عقبات التحول الديموقراطي. وجد حزب «التحرير» نفسه – كما يقول الباحث – منذ اللحظة الأولى في تعارض كامل مع المرحلة السياسية، التي عقبت الإطاحة بنظام بن علي، وذلك من خلال رفضه القاطع لمسألة الانتقال الديمقراطي بحجة «أن هذا المشروع الاستعماري الخبيث الذي يرفع شعار الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، جاء ليثبت الثابت لدى العقلاء من الناس، وهو أن الديمقراطية ليست إلا أكذوبة يستعملها أصحاب النفوذ والمال، لنهب البلاد وتضليل العباد، وما هذا المشروع إلا نموذج بسيط من ألاعيبه». فالحزب ينطلق منذ تأسيسه، من الاعتقاد بوجود «مؤامرة مستمرة ضد المسلمين، يديرها الاستعمار بطرق متعددة، بقيادة بريطانيا بشكل أساسي، ثم تأتي بقية القوى الفرعية، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية». يضيف الجورشي، أنه خلافاً لحركة «النهضة» رفع حزب «التحرير» الإسلامي مطلبين أساسين، هما إقامة الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة، واعتبر أن الحل لمختلف مشكلات تونس ما بعد الثورة، يكمن في «التأسيس لدولة تنبع من هوية هذه الأمة، التي ينتمي إليها أهل تونس، فتكون بذلك عقيدة الأمة أساسا للقوانين والأحكام والنظم والتشريعات، ويكون شرع الله فوق الجميع». الخلط بين حزب «التحرير والتيار السلفي»، هو أمر يحذر منه الباحث، ويعتقد أن ذلك يعود إلى «تبني الطرفين لبعض المقولات المتشابهة، مثل المطالبة بتطبيق الشريعة، ورفض الديمقراطية، والتركيز على مقولة الدولة الإسلامية». لكن على الرغم من ذلك، فإن هناك فوارق عديدة تميز حزب «التحرير» عن التيار السلفي. وفي هذا السياق أكد رضا بالحاج، الناطق الرسمي باسم الحزب أن «حزب التحرير ليس حزبا سلفيا، لأن مرجعنا ليس السلف، من أي جيل من الأجيال». السلفيتان: العلمية والحركية وفيما يتعلق بالتيار السلفي، فإن الجورشي، يقسم هذا التيار في تونس إلى قسمين: تيار يعرف باسم «السلفية العلمية» الذي يتميز بتركيزه على الجوانب العقدية والتربوية، ولا يقر بشرعية الخروج على السلطة (الإمام)، كما أنه لا ينزع إلى ممارسة العنف، وهؤلاء يكتفون بتقديم النصح لولاة الأمور، ويعملون على الالتزام بالكتاب والسنة. أما التيار الثاني، فيطلق عليه «السلفية الجهادية «، وإذ يلتقي أفراده مع بقية السلفيين في أغلب المقولات العقدية والسلوكية، إلا أنه يجيز الخروج على ولي الأمر عندما يخالف الشرع، بما في ذلك تبرير رفع السلاح ضده. «لم يكن للتيار السلفي أي دور في حيثيات الثورة التونسية». مستشهدا بما أقدم عليه بعضهم في أواخر سنة 2006 من مواجهة مسلحة، ضد أجهزة السلطة، إذ «لم يكن يحمل طابعا ثوريا، وإنما كان جزءا من محاولة تنظيم القاعدة اختراق الساحة التونسية، عبر المساعدة على تسليح وتدريب مجموعة من الشبان، الذين استفزتهم ملاحقة السلطة للمحجبات والمتدينين»، ورأوا في ذلك دليلا قاطعا على «كفر النظام وضرورة الخروج عليه». صحيح أن تلك الحادثة قد أشارت إلى «حالة الانسداد السياسي التي أفضى إليها أسلوب النظام في إدارة شؤون البلاد، لكن الذين قاموا بها لم يفعلوا ذلك من منطلقات ثورية، ولم يكن لديهم مشروع سياسي ديمقراطي أو اجتماعي على الرغم من أن السلفيين لم يلعبوا أي دور في الثورة إلا أنهم كانوا من بين أهم المستفيدين منها». وعن علاقة السلفيين بحركة «النهضة»، فإن راشد الغنوشي اعتبر في تصريحات سابقة للثورة، أن السلفيين في تونس جزء من أبناء «الصحوة الإسلامية الثانية». فبعد أن عمل بن علي، على تصفية «النهضة» والقضاء على مختلف تشكيلات الإسلاميين خلال التسعينيات من القرن الماضي، تهيأت ظروف داخلية وخارجية لتفرز ولادة جديدة للظاهرة الإسلامية، ولكن بتركيبة مختلفة، وبفكر مغاير. يشكل المستقلون في الساحة الإسلامية التونسية – كما يرى الجورشي- ظاهرة مهمة، تحتاج إلى البحث والتعمق في أسبابها وتداعياتها على أكثر من صعيد، وأغلب هؤلاء عاشوا في مُدد سابقة تجارب حركية متفاوتة داخل حركة «النهضة»، وغادروها لاعتبارات مختلفة. وبعد الثورة، وعلى الرغم من العودة القوية ل»النهضة» على الساحة السياسية، إلا أن كثيرا من هؤلاء حافظوا على قدر من المسافة تجاهها، وإذا كان كثير منهم قد تحول إلى متابع لما يجري، غير أن عديدا منهم أيضا، قرر المشاركة في الشأن العام بصيغ متعددة، سواء من خلال تأسيس جمعيات خاصة في الحقل الخيري، أو المساهمة في مبادرات ذات طابع سياسي. ومن بين الشخصيات الإسلامية المستقلة الشيخ عبد الفتاح مورو، الذي يعتبر المؤسس التاريخي للحركة الإسلامية التونسية، والأمين العام السابق لحركة «النهضة». تيار «العريضة الشعبية» تيار «العريضة الشعبية» ينظر له الجورشي، بوصفه إحد تعبيرات الساحة الإسلامية التي أفرزتها مرحلة ما بعد الثورة، لكنه تيار سرعان ما تعرض للانقسام، وأصيب بهزة قوية أضعفته سياسياً، دون أن يقلل ذلك من أهميته. فالتيار نجح في الوصول إلى المجلس التأسيسي والحصول على 15% من أصوات الناخبين، وذلك بفضل خطاب «شعبوي» جمع بين الهوية وملامسة احتياجات الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة، إلى جانب البعد القبلي الذي ساهم بقوة في تعاطف جزء هام من أبناء جهته (سيدي بوزيد). يتلخص البرنامج الانتخابي- كما يقول الباحث – لهذا التيار، في تقديم ثلاثة وعود مغرية، للناخبين من الفئات الشعبية الفقيرة: منحة شهرية للعاطلين عن العمل، والصحة المجانية، ونقل بدون مقابل للمسنين بوسائل النقل العمومية. تطبيق هذه الوعود على أرض الواقع مرهون بفوز قوائم العريضة الشعبية بأغلبية واسعة، بمقاعد المجلس التأسيسي، وعندها يقوم الفائزون بانتخاب زعيم التيار الهاشمي الحامدي، رئيسا للبلاد. هذه الفكرة على بساطتها، أغرت عدداً واسعا من المواطنين الذين صدقوا هذه الفرضية، وصوتوا بكثافة لصالح قوائم لم يقم مرشحوها حتى بتوزيع صورهم والتعريف بأنفسهم، مما أحدث المفاجأة، ورج الساحة السياسية بأحزابها ونخبها. تحولات السلفيين بالعودة إلى «التيار السلفي» وتحولاته، تحيلنا دراسة الباحث والصحافي التونسي، مهدي عبدالجواد، إلى الأسس النظرية للسلفية عامة، والسلفية في تونس، قبل وبعد الثورة، مشيرا إلى أن السلفية اليوم، «تنكرت لمنابِتها، وبنت ثقافتها السياسية على بناء الحدود مع الفكر الحديث، وانكفأت على المدونة الإسلامية مرجعا وحيدا، وسافرت عبر الحدود لتجد لها آباء جددا»، ومعتبرا أن ما تثيره اليوم كلمة «سلفية» من علاقة بالعنف والإرهاب ونفي الاختلاف «دليل على ذلك». ويرى الباحث أن الظهور العلني لهذا التيار السلفي في تونس بعد ثورة الرابع عشر من يناير، يعتبر «امتحانا كبيرا لكل القوى السياسية، و على رأسها حركة النهضة. فهذه الحركة مطالبة، أكثر من غيرها، بحزم أمرها، والقيام بالمراجعات النظرية الضرورية والمؤلمة، لتضع حدودا فاصلة بينها وبين هذه التيارات السلفية الأصولية، ومرجعياتها العقائدية»، مشددا على أنه «من غير المقبول من قيادات هذه الحركة التي تحكم تونس اليوم، أن تتنادى بالخلافة السادسة الراشدة، لأن ذلك يجعل نقاط التماس مع السلفيين قوية جدا»، وقد يجعل من الحديث عن «مهادنة» الحركة ذات «الإسلام المعتدل» لهذه التيارات أمرا حقيقيا. شاهد على الانتخابات أما الفاضل البلدي، الذي خاض الانتخابات الأخيرة، فقد قدم دراسة تصف المشهد العام، وترصد المتغيرات فيه، مستحضرا التاريخ «الحداثي» لتونس. يقف الباحث عند كسب الحركة الإسلامية للانتخابات، مستذكرا في ذات الوقت مسؤوليتها فيما جرى لها وللبلد، خلال عقدي التسعينيات والعشرية الأولى من القرن الجديد، وذلك بسبب ما يسميه «الغفلة أو الغباء السياسي، أو سهولة الاستدراج، أو الإعجاب بالكثرة، والتقليل من شأن النظام الجديد، وقدرته على البطش، أو غياب حسن التقدير لطبيعة التحديات الموضوعية الداخلية والخارجية في ذلك الظرف، الذي لم يكن مرحبا به بالحركة الإسلامية». معتبرا أن الأحداث التي شهدتها تونس خلال العقود الخمسة الماضية، قد راكمت في النفوس «كثيرا من الآلام والجراحات»، ولم يقتصر ذلك على فئة دون أخرى، فقد «عمّ الاضطهاد الفئات جميعها من يمين ويسار. وكان للتونسيين – كما لغيرهم – قدرة كبيرة على التخزين وكتم الآلام والصبر على الأذى». من جهة أخرى، يرى الباحث أن النظام كانت له «حماقات كثيرة ساعدت على الانفضاض من حوله، والنقمة عليه، والانخراط في كل العمليات والأعمال الاحتجاجية ضده، لعل من أهم تلك الحماقات الانكفاء شيئا فشيئا على نفسه، من نظام منفتح على المعارضة في البداية، ومشرك لها، إلى نظام منغلق شيئا فشيئا، ومنشغل على الجميع، وموظف لكل الأجهزة من أجل التمكن والاستمرار، متنكرا لكل المبادئ التي أعلنها في البيان المشهور». وتضيف الدراسة أنه يمكن القول إن الناشطين في المجال الحقوقي والسياسي، قد نجحوا مع الوقت في اكتساب مساحات وفرض وضع جديد على النظام، يقضي بالتراجع عن سياسة العصا الغليظة، وقد اكتسب هؤلاء الناشطون حرية وجرأة، وساعد على ذلك مختلف وسائل الاتصال العصرية (الإنترنت، وفيسبوك، وتويتر، والهواتف الجوالة ورسائلها القصيرة). مستطردا «وإذا علمنا أن تونس تأتي في أوائل الدول العربية، من حيث عدد رواد المواقع الاجتماعية، ومن حيث مستعملو الهاتف الجوال، ومن حيث اكتساب المهارة في توظيف هذه الوسائل لفضح النظام وتعبئة الرأي العام ضده، باعتباره نظاما مستبدا قهريا وعائليا، نفهم كيف أن هذا الوضع الخاص والمتقدم، قد كان له دور فعال في إخراج الشباب من السلبية إلى الايجابية، وفي إقناع شرائح واسعة بأنهم يستطيعون أن يفعلوا شيئا في اتجاه مقاومة الاستبداد، وافتكاك الحرية». تفشي البطالة إلا أن الفاضل البلدي، يؤكد على أمر آخر، قائلا «لا ينبغي أن ننسى أن تزايد عدد العاطلين من المتعلمين وخريجي الجامعات، الذي بلغ مئات الآلاف، وكانوا في جلهم ينتمون إلى المناطق الداخلية، وإلى العائلات الفقيرة أو محدودة الدخل، والذين كانوا يحلمون بعمل يوفر لهم ولعائلاتهم الكرامة، ويخرجهم من الفقر ويفتح أمامهم آفاقا رحبة». وهي حال برأيه «جعلتهم يمتهنون مهنا وضيعة، ويملأون المقاهي، وتتاح لهم بذلك فرص الحديث والحوار، وتبادل الأخبار، والاختلاط مع غيرهم من الشباب، وتناقل أخبار العائلة واستئثارها بكل شيء من دون الناس، واستئثار أتباع الحزب الحاكم، أي التجمع الدستوري الديمقراطي بالمنافع والامتيازات وفرص الشغل المتاحة. وكان الشباب وبفضل وسائل الاتصال العصرية يقارن بين وطنه وبقية الأوطان الغربية الواقعة في الضفة الشمالية للمتوسط، ويصاب بالإحباط والغبن، ويكره نفسه ووضعيته ومصيره، فيلجأ بعضهم للهجرة هربا من جحيم الوطن، وطمعا في حياة كريمة وراء البحر، ولكن الأغلبية بقيت تغالب الزمن وتمنّي نفسها بتبدل الأوضاع». معتقدا أنه «كان لتوسع دائرة المضطهدين والغاضبين، أثر في صناعة المناخ الثوري، وتقلص الخوف، وتنامي الجرأة والإيجابية». تونس من ثورة الياسمين إلى صعود الإسلاميين الشرق تفتح الخارطة التونسية بعد الثورة: سلفيون، تقدميون، شيعة( 1 من2) الشرق تفتح الخارطة التونسية بعد الثورة: سلفيون، تقدميون، شيعة( 2 من2) استمرار الاحتجاجات في التيارات المختلفة (الفرنسية)