يقرؤها: عبدالمحسن يوسف يرسمها: معتصم هارون بحفنةٍ من الكلمات يرتب العاصفة .. يسرُّ إلى البحر بكلمةٍ فيتبعه البحر! ويقول للأشجار شيئاً، فتموج في قميصه الصيفيِّ، وتصدح فوق أغصانها العصافير مُبلِّلةً جباهَنا بالغناء.. يهمس لحبيبته هكذا : « عدم النظر إليك يشوّهُ ملامح وجهي « أقرأ همسته فيتسع القلب أكثر، ويصبح الكون أقل عبوساً، وأرى السماء مزدانةً بملايين النجوم وأرى الغيوم تهبطُ في الكأس، وأرى القصيدة تتهادى ممعنةً في التبرج، وأرى غزالة اللغة مطيعةً على غير عادتها، وتفيض في رئتي نزهةُ الأوكسجين.. كلما شيّدَ نصاًّ، فتح لنا كوّةً يتسرب منها ضياءٌ جديد ونسائم فاخرة.. وكلما شيدّ نصاًّ أحسُّ كما لو أنه يقتادنا – نحن قراءه المشغوفين ببوحه الطازج – من أطراف أصابعنا إلى مرايا النهر لكي نحدّق في أعماقنا بضراوة، ولكي نبصر ذواتنا جيداً، ولكي نضبط أنفسنا متلبسين بالحب والألم والترْكِ والشغف والنحيب والمسرّة والعنف والرقة والرأفة والعذاب! حين يكتب نصا يؤثثه بجمر لغةٍ استثنائية، لغةٍ ناصعةٍ ، لغةٍ لم تعرف يوماً هواء المخازن، أو حلكة السراديب، أو غبار الأضرحة، أو برودة الجثث! يكتب نصاًّ عن حبيبته، فتتدفق الأعراس على بياض الورقة، أما نحن فيغمر نوافذنا المسكُ، ويبلل ساعاتنا الياسمين! يكتب نصاًّ عن تلك «التي يجهزّ لها والعالمُ القهوة»، فيستحيل النصُّ قصيدةً فارهةً تمدُّ لسانها ساخرةً من ثرثرة البائسين من العشّاق، متفانيةً في ازدراء تلك القوافي المحشوة بالذباب والحماقة والطنين، وممعنةً في هجاء تلك القصائد الرثة المكللة بالرماد والغباء واليأس! إنه حين يكتب، يكتب ببسالة عاشقٍ فريد، بسالةٍ تجعله قادراً على احتلال العالم بحفنةٍ من الكلمات! كاتبٌ مغايرٌ هو ..يحسن تفكيك الظاهرة اللغوية بدأبٍ عجيب، إنه يحفر عميقاً تحت جدران اللغة، قراءته تستدعي تأملاً عميقاً يليق بمن يتأمل نقوشاً دقيقةً في سجادةٍ فارسيةٍ ثمينة.. قراءته تستدعي تركيزاً عالياً لسبب بسيط، هو: لا يكتبُ ما تواطأنا عليه، وليس بوسع متلقٍ مهما أوتي من ثقافةٍ ومعرفة ودربةٍ وخبرة قرائيةٍ أن يتكهن بما يهجس به كاتبنا قبل التنزه في حدائق نصه الوارف عادةً والغني دائماً..أنه يحسن إعادة إنتاج العالم كما يحسن السطو على قلوبنا التي ترفرف كالعصافير حال قراءته.. كل نص يبدعه هبةٌ فاتنة.. كل نص تحوكه أصابعه تحفةٌ أدبيةٌ نفيسة.. على المستوى الشخصي، تجعلني قراءته أصدحُ بغناءٍ نادرٍ لم تفطن إليه حنجرةُ العندليب، وأن أسير هادئاً على الماء دون أن تدركني شهوة البلل! إنه المبدع الليبي المدهش محمد الترهوني.. إنه مثل مطرٍ سخيٍّ ينقر زجاج نوافذِ القلب ليقنعنا بأن نحتمل قبح هذه الحياة، وأن نفتش في أعماقنا عن حدائق مُهْمَلةٍ آنَ أنْ نعتني بها.. أخيراً أقول: محمد الترهوني، أيها المبدع الفذ، إن من يصدُّ عن قراءةِ نصوصك الجميلة كمن ينفي نفسه في براري الصقيع..