شعره يفيض بالبساطة العميقة. ولغته صافية كمياه النبع. في نصوصه تتبرج موسيقى هادئةٌ، وإيقاعاتٌ متمهلة، ورنينٌ حميمٌ كرنين الأجراس الصغيرة في جيد مهرة تتهادى دلالاً في المروج الفسيحة. حفاوته الفاتنة بالمشهد العادي حفاوة ٌ بارعة ٌ لا يقبض على جمرها سوى شاعر متمكن من أدواته وصوته وشؤون غنائه العذب. ليس مرتهنا للأوهام. وعبر لغة فاتنة كصبية عاشقة، لغة ٍنظيفة مثل ضفة النهر، يرتقي بالمشهد المعتاد فيغدو غير معتاد ٍ.. إذ يحرره من ذلك الرماد الغبي الثاوي في أعين العابرين البليدة، تلك الأعين التي على اتساعها لا تبصر جمالاً، ولا تسائل ما بدا متطامناً، ولا تحرك غصنا كما يفعل الطير، ولا تشعل في العادي جمرة السؤال، ولا تذكي في المألوف جذوة الشجن. لكن شاعرنا يحسن التأمل فيما يرى، ويهندس القصيدة بحبر القلب. ملئ بالمخاوف كأنه «جملة من مخاوف» في معطف يضنيه الحفيف. تلك المخاوف تنعكس على نصوصه فتمتلئ الكلمات بالهواجس، بالعرق الفذ، بالرعدة المفاجئة، وبالأسئلة التي تؤجج رعدة القلب وقلق الروح ورعشة القميص البليل. ليس معنيًّا ب»الشعار الذي انتصر على الشعر» كما يرى محمود درويش، الشعار الذي انتصر على الإنسان كما أرى، كما أنه ليس معنيًّا بالكلام الكبير عن «نضال الشاعر» وعن «بسالة القصيدة»، ذلك النضال الذي يلوكه عدد ليس يحصى من الكتبة والشعراء قليلي الموهبة، في كتاباتهم وفي جلساتهم الطويلة الذابلة على أرصفة الزمن والفراغ والكراهية، وفي مقاهي التنظير الذي يضيف إلى الضباب ضباباً. متعدد البوح هو.. يكتب القصيدة، والسرد، واليوميات العذبة، والمقالة، والنقد، ويحسن الترجمة، ويلوذ بالموسيقى من ظمأ كامن في العروق، ويستجير باللوحة من رمضاء زمن ٍ ضامر ٍ وهواء ٍ نحيل. بوحه قريب من القلب. كأنه يسكن القلب متئداً. حين تقرؤه، تحيط بك الفراشاتُ مطمئنةً، وتفئ ُ إليك الغزلان. حميمٌ كبوح ِ المرايا الجميل لأقنعة خائفة. حين تقرؤه تخبئه عميقاً في حقول الروح، وتحرسه من ذبابٍ لئيمٍ ، ومن ذئبة في دجى الليل. كأنه أنت. أو كأن «أنت» هو.. لا مسافة بينكما.. على الرغم من شراسة الجغرافيا وحماقة التاريخ. لا تمتد بين أحلامكما جدران هرمة. ولا تستبدُّ الضغائن، هذه الأسقام التي باتت تؤثث قلوبًا كثيرة ً في زمن ٍ حامض ٍ وكئيب. الأشياء الميتة تسترد حياتها على يديه وفي حبره. مغمورٌ بالناس وبالذكرى. والماضي في قلبه حاضرٌ كرائحة الرغيف وكالعشب تحت المطر. لا يجامل طاغية ً ولا يسعى حثيثاً في مرايا الهبات. حين يكتب عن «السفينة» مثلا تتذكر على الفور سفينة أبيك ذلك الصياد المطعون بالبحر والمشتعل بالمواويل. وحين يتحدث عن الأسماك ساعة صيدها، تتذكر أسماكك الأولى التي لا تزال لامعة في بحر عينيك وساطعة في مهب الفؤاد. أنت لم تلتق ِ هذا الشاعر يوماً على رصيف الحياة الرث، في الواقع المبتلى بالغربة والعزلة والحروب والنوايا المريضة. بيد أنك التقيته في النصوص، وجلست عن كثب بين يديه، فبدا نخيله مثمراً في يديك، ووجهه مشرقاً في فضائك المختزل، ونجمته الحيية ساطعة ً في سراب القميص. كأنك تعرفه من زمان ٍ بعيد. كأنك تناولت بصحبته القهوة في مقهى ناعم ٍ وجميل وممتلئ ٍ بالنساء الحسان وبالقصائد العابقة بالشذى والمسرة. كأن بينكما أشياء مشتركة.. طفولة أليفة.. ونخلاً تمشط النسائم ضفائره الحرير.. وتنور الأم .. وصلاة الأب .. وسحبًا تتشكل كالسينما .. كأن بينكما عصافير، وأرغفة ساخنة، وأحلاماً عذبة، وأفقاً للتأمل البديع وللضحكة البيضاء. إنه فوزي كريم .. ذلك الشاعر العراقي الجميل الذي طفقت مفتونًا به زمناً وما تزال دون أن تراه. هذا الذي «رفع يديه احتجاجا» على كل مبتذل أو رخيص . وهو الذي أبصر «عثرات الطائر» فسعى حثيثًا إلى معالجة عثرات نفسه ليكون بهيًّا وقليل الأخطاء. وهو الصارخ مثل الخائف من طرفته «لا نرث الأرض» ومضى مثل وعل ٍ جريح ٍ متنقلا في المنافي البعيدة وبراري الكلمات. وهو الذي ظل مخلصًا للشعر النظيف، الشعر الخالص، الشعر غير اللقيط مع أننا في «السنوات اللقيطة « . إذاً، فلتفتحوا نوافذكم كي يدخل ذاك الضياءُ الثمين.