انه نص قصير للغاية، بالمقارنة مع ما يماثله من نصوص يابانية أخرى معاصرة له، وحتى بالمقارنة مع ما قد يوحي به اسمه للوهلة الأولى، لكن هذا النص الذي لا يتجاوز طوله الأربعين صفحة، كان له من التأثير في الأدب والفكر اليابانيين، أكثر مما كان لأي نص آخر. ذلك انه نص يسبر في العمق لا في الطول. وذلك، أيضاً، لأنه نص تأمّلي كتبه راهب في صومعته، من دون ان ينسى ولو للحظة انه في نهاية أمره انسان، يكتب ليعبّر عن نفسه، وربما أيضاً يكتب لنفسه، من دون ان يتطلع الى ان يقرأ الآخرون ما يكتبه. النص عنوانه في اليابانية «هوجوكي». ومقطع «جو» الذي يتوسط الكلمة هو قياس ياباني قديم لمساحة الأرض ويساوي نحو ثلاثة أمتار في ثلاثة، وهو القياس المعهود الذي كانت عليه صوامع الرهبان اليابانية في ذلك الحين. وذلك الحين هو بدايات القرن الثالث عشر الميلادي (أو العام الثاني من عصر «كنرياكو» احد عصور التاريخ الياباني). أما العنوان فيعني ما يماثل «ذكريات من صومعة تبلغ مساحتها عشرة أمتار مربعة». وهي، بالتحديد، الصومعة التي عاش فيها الراهب البوذي الياباني كامو شوميي، وكتب نصه التأملي المؤسس ذاك، بعد ان ترك البلاط الامبراطوري حيث تربى وكان يعيش، مفضلاً عليه حياة العزلة والتأمل. «هوجوكي» هو، إذاً، نص تأملي كتبه ذلك الراهب، ليصف فيه انفكاكه عن العالم المادي وعثوره على سلام الروح الداخلي في ذلك المكان الذي آثر ان ينعزل فيه بعيداً من ملذات العالم الدنيوي التي كان يتيحها له عيشه في البلاط الامبراطوري. ويقول دارسو هذا النص ان الأساس فيه هو لغته الجميلة، اللغة التي تصل ما بين الطبيعة والمشاعر الانسانية العميقة التي كان يعبر عنها كامو شوميي، وهو نفسه الذي عدا عن ذلك النص السردي التأملي الذي كتب نثراً، اشتهر بأشعاره العميقة التأملية التي ربما كانت أول ما عرفه الشعر الياباني من تعبير عن الانسان في علاقته بالوجود والطبيعة. كامو شوميي، كان في الأصل ابناً لواحد من كبار رهبان واحد من المعابد الشنطوية (البوذية اليابانية). وكان ذلك الراهب الذي يقال انه في الأصل ذو قرابة مع الأمراء، يخدم في معبد كامو (الذي سمي الولد باسمه)، لكنه مات فيما كان الابن طفلاً فألحق هذا الأخير، يتيماً، بالبلاط الامبراطوري في كيوتو، ولكنه حين تجاوز الخمسين من عمره وبعد ان عاش سنوات طويلة في البلاط، قرر كامو ذات يوم ان الوقت حان لكي يهجر ذلك كله، وينزوي في مكان يتأمل فيه. وهو بالفعل انصرف الى صومعة، هي عبارة عن كوخ صغير بناه بنفسه في الجبال المحيطة بمدينة كيوتو - العاصمة اليابانية في ذلك الحين -، وعاش في ذلك الكوخ. وكان نص «هوجوكي» أول ما كتبه هناك، راغباً منه ان يكون نصاً فلسفياً يتحدث عن الحياة وقصرها في الزمن وآلامها، وعن المخاطر التي تحيط ببني البشر في كل لحظة ناهيك عن اشاراته الى الطبيعة وفعلها في وجود البشر سلباً وإيجاباً. والكاتب، لكي يعطي امثلة حية، يعرفها الناس جميعاً، عن تلك الأخطار، يورد في نصه كوارث عاشها الناس هناك، ولا تزال ذكراها محفورة في أعماقهم: الحريق الذي أتى على مدينة كيوتو في العام 1177، والإعصار الذي عصف بتلك المدينة في العام 1180، ما أدى الى نقل العاصمة من كيوتو الى فوكووارا في ذلك العام نفسه. وإثر ذلك يصف كامو المجاعة التي حلت بالبلاد والأوبئة التي تبعتها، ولا سيما الطاعون الذي قضى على الألوف من السكان. وأخيراً يصل الى وصف الزلزال الرهيب الذي ضرب المنطقة نفسها في العام 1185. ان هذه الأحداث العاصفة والمميتة التي حلت بمنطقة واحدة من مناطق اليابان في وقت واحد تقريباً، يشكل وصفها القسم الأول من هذا الكتاب. ومن الواضح ان كامو لم يصف هذه الأحداث، إلا لينطلق منها الى القسم الثاني من كتابه، وهو القسم الذي يبدو أكثر أهمية، ذلك أن الكاتب يستخلص فيه دروس القسم الأول، ولا سيما من خلال ذلك التناقض الكبير بين روحية كل من القسمين. فلئن كانت المخاطر والكوارث تهيمن على القسم الأول، فإن الهدوء والدعة يهيمنان على القسم الثاني، لأن الكاتب يروح فيه واصفاً الحياة التي يعيشها هو في الكوخ المعزول وسط جمال الطبيعة وهدوء عناصرها. فالانسان الذي يجد نفسه منجرفاً في حياة مادية، حسبه ان يخرج من تلك الحياة، ويلتحم بالطبيعة لكي يجد خلاصه (كما فعل هو). صحيح ان كامو لا يزعم في اي صفحة من صفحات الكتاب، انه انفصل كلياً عن ماضيه، فهو في تلك الحياة التي ينعم بهدوئها ويصف جمالها ودعتها، يظل يعيش تحت وطأة ذكريات الايام والأحداث الحزينة. ولكن أفلا يعرف الشيء بنقيضه؟ بلى، لأنك إن لم تذق طعم الحزن، لن تتمكن من معرفة لذة الفرح. ومن هنا يشكر كامو الرب، لأنه جعله يعيش الحزن ثم الفرح، الكارثة ثم الهدوء. وهذا ما يجعل من كتابه نصاً انسانياً عميقاً وواقعياً، لأن الكاتب لا يحاول هنا ان يدعو الناس جميعاً الى الاقتداء به في وحدته وعزلته والتحامه بالطبيعة، فهو بعد كل شيء يعرف جيداً ان ذلك ليس واقعياً. ما كان يريده كامو في هذا الكتاب انما هو التأكيد ان الحياة يمكن ان تتألف من كل شيء: من الافراح ومن الأحزان، من السعادة والتعاسة. المهم هو كيف نتعامل نحن، معشر البشر معها. ومن هنا اعتبر الكتاب دائماً كتاباً في السيكولوجية البشرية، لا دعوة الى الهروب. فهنا يعرّي الكاتب، بحسب قول واحد من الذين كتبوا عنه ووصفوا كتابه، «يعري فؤاده، ويصف نفسه وحياته» في نص هو نشيد للحياة ودعوة الى التماشي مع ما تعطينا اياه الحياة، فإذا كانت الطبيعة هنا، محيطة بذلك الكوخ، فإنها هنا لكي يعيش المرء وسطها ويتأمل، في محاولة منه، ليس لنسيان احزان الماضي، بل لإدراك قيمة تلك الاحزان في وسمه بالطابع الانساني. انه الخلاص، ليس من طريق الهروب، بل من طريق التأقلم مع الأحداث ومعرفة كيفية الرد عليها. والواقع ان هذا البعد هو ما أعطى ذلك الكتاب طابعه، وجعله - كما ستكون حال «الأمير الصغير» لاحقاً - واحداً من النصوص التي يقرأها اليابانيون ويؤمنون، بفضلها، بالحياة على رغم كل شيء. وقد ترجم ال «هوجوكي» الى كثير من اللغات، وتأثر به عدد كبير من الكتاب في شتى بقاع الأرض. هذا اضافة الى ان كثراً من الفنانين اليابانيين اعترفوا دائماً بالفضل الذي كان لذلك النص على ابداعاتهم الفنية ولا سيما في مجال الرسم الذي نعرف انه تأثر بالطبيعة وخلّد آياتها في ألوف اللوحات الخالدة. [email protected]