التعليم الديني نوع أساسي من التعليم في كافة أنحاء العالم، وفي العصور المتقدمة كان هو النوع الوحيد المتوفر من أنواع التعليم وأنماطه، فالبشر يتعلمون كي يتقنوا ممارسة الشعائر الدينية بشكل يتوافق مع تعاليم الشرائع السماوية، وهذه القيمة المعلنة تحمل ازدواجا يشترك فيه الدافع والهدف، والسبب والنتيجة، وهي تضمن بلا شك قبولا أكثر، وإقبالا أوسع لدى شرائح البشر المتعددة. بدأ التعليم في بلادنا من خلال الكتاتيب، التي كانت تعقد في بيوت الشعر في البيئات الصحراوية، وفي العرائش أو تحت ظلال الأشجار في الأرياف والقرى، ومع الدولة السعودية انتشر الدعاة في مناطق متعددة من المملكة بقصد نشر التعليم، والقضاء على الأمية العقيدية والمعرفية الأولى. وبعيدا عن الإفاضة في استعراض أشكال التعليم الديني وصوره القديمة واتجاهاته (فلهذا أحاديث أخرى مختلفة تماما) نقول إن الرئاسة العامة للكليات والمعاهد كانت المؤسسة الكبرى الأولى – على حد علمي – التي حوت تحت إشرافها عددا غير قليل من المعاهد العلمية التي أنشئت في المملكة خلال القرن الهجري الماضي، الرئاسة تحولت فيما بعد إلى جامعة سميت باسم الرمز الديني والوطني الكبير لهذه البلاد الإمام محمد بن سعود رحمة الله عليه. (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) كل المعطيات التي سبقت تشكّلها وإنشائها، وصولا إلى تسميتها وتخصصاتها وفروعها وأصحاب المعالي من مديريها على مدى مسيرتها، كل ذلك يشير بوضوح ومباشرة إلى أنها رمز للتعليم الشرعي في المملكة العربية السعودية. الأمر الذي لم تتنصل منه جامعة الإمام يوما، ولم تدخر وسعا ولا طاقة ولا برامج في سبيل تعزيزه وتعميق انتمائها إليه، وهذا شيء يحسب لها بالتأكيد. وإن كان هذا الانتماء قد أكسبها عددا من الخصومات، وعددا آخر لا يقل عن سابقه من الانطباعات النمطية والاتهامات الجاهزة أحيانا. تلك التي تشكلت في فترات سابقة بفعل بعض الممارسات لنفر من خريجيها ومنسوبيها الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، ولا يعكسون منهج الجامعة ولا جادتها التي تعتنقها، وتدأب على تكريسها ونشرها والدعوة إليها في الداخل والخارج، وقد تناسى بعض من يتبنى هذه الصور النمطية عن الجامعة، الكم الهائل من القيادات التي قدمتها الجامعة للوطن، والبرامج التي ساهمت فيها على طول مسيرتها التعليمية والاجتماعية والبحثية. من مصادر تميز جامعة الإمام وثقلها النوعي في منظومة التعليم في المملكة؛ انتشارها الواسع عبر فروعها – سابقا – وعبر معاهدها العلمية المتكاثرة داخل المملكة وخارجها، ولقد ظلت جامعة الإمام وفية لثوابتها التي نشأت عليها وأنشئت من أجلها، من نشر العلم الشرعي، والدعوة إلى دين الله ونشره في أنحاء العالم كافة، ومنذ سنوات قريبة بدأت جامعة الإمام مسيرة التحول الإيجابي؛ نحو اجتراح أنماط جديدة من الوعي الجديد بمفهوم التعليم الديني الشامل، المبني على أسس راسخة من الوعي العميق بتعاليم الدين الإسلامي وكلياته الكبرى، التي تتسع لتشمل شؤون الحياة كافة، وعلى هذا الأساس من الفهم اتجهت الجامعة خلال إدارة معالي الأستاذ الدكتور سليمان أبا الخيل إلى توسيع دائرة خدماتها التعليمية، لتفتتح تخصصات وكليات علمية وإنسانية وإدارية عديدة، تزيد من قوتها وتميزها وانتشارها وإقبال الطلاب عليها من داخل المملكة وخارجها بكثافة تفوق طاقتها الاستيعابية أحيانا، كما أصبحت الجامعة ميدانا غزيرا للمؤتمرات والندوات العلمية المتخصصة والعامة. ولعل من أبرز التحولات الإيجابية في مسيرة جامعة الإمام؛ اتجاه الجامعة إلى الاهتمام الكبير بالفتاة وتعليمها، وفتح كافة التخصصات والكليات أمام فتيات الوطن، بل إن هنالك أقساما وتخصصات لا تكاد الطالبة تجدها إلا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وهذا تحول كبير وتاريخي في تاريخ الجامعة. الجناح الثاني، الذي يشكل ثقل الجامعة وتميزها، وأعني به المعاهد العلمية، وهي النواة الأولى للجامعة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، والتي تكاثرت في إدارة الأستاذ الدكتور أحمد الدريويش لتصل إلى أكثر من 65 معهدا، والمعاهد العلمية مدار أحاديث ونقاشات لا تهدأ، تتناولها أطياف متعددة ومشارب متنوعة في بلادنا، فهناك من يطالب منذ فترة طويلة بدمجها ضمن مدارس التعليم العام، حتى لا تكون أقسام التعليم العام تابعة لأكثر من جهة تعليمية، إلى غير ذلك من النقاشات والحوارات الساخنة الكثيرة. قبل سنوات قليلة شهدت المعاهد العلمية تطورا لافتا في مجالات متعددة، وذاع صيتها بشكل غير مسبوق، والتحمت المعاهد بالمجتمع وعرف عنها الناس أكثر مما كانوا يعرفون في السابق، غير أن التحول الأبرز في مسيرة المعاهد العلمية، هو أن مناهج العلوم غير الشرعية أو الأدبية، قد عرفت طريقها إلى خطط المناهج في تلك المعاهد، وعلى الرغم مما في هذه الخطوة من دقة وحساسية، إلا أن الدكتور الدريويش استطاع أن يجعلها واقعا مشاهدا، بعد أن حُرم الآلاف من خريجي المعاهد العلمية لسنوات طويلة، من فرصة الدخول إلى التخصصات الجامعية العلمية التي يتطلبها سوق العمل، بسبب أنهم لم يدرسوها في مراحل تعليمهم المتوسط أو الثانوي! فجاءت تلك الخطوة قفزة غير اعتيادية للمعاهد، تعكس الرؤية التربوية والإدارية الحديثة التي تكرسها جامعة الإمام في تحولاتها الأخيرة التي توازن بين الثبات في الفكر، والتجديد في الآليات والأدوات. إذا كانت رسالة الجامعة – أية جامعة – ترتكز على ثلاثية التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع، فإن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بمثل هذه التحولات المثيرة والمثرية، تؤكد أن وعيا جديدا يدير الجامعة في سنواتها الأخيرة، وهو وعي جديد يجدر بالمجتمع أن يتقبله ويشجعه، ويجدر بالجامعة أن تعتز به، وتستمر في تعزيزه وتسعى إلى تجاوزه نحو آفاق أكثر شمولا وخدمة للدين والوطن والإنسان في هذا البلد.