تحدّثت في المقال السابق عن إشكالية الأدب في الوطن العربي وغيابه عن التواصل مع الشارع الذي يخرج منه، ومن ثم التواصل معه مؤثرا ومتأثرا. ففي الوقت الذي لطالما كانت فيه اللغة هي ذاكرة الناس في أي مجتمع، وكان الأدب فيه هو ضمير الشعب والأمة والبوابة المفتوحة دائما على ثقافتها. يبقى السؤال المفتوح والقاتل برأيي: ما مدى قدرة الأدب/ الشعر العربي على التعبير عن الإنسان العربي؟ إشكالية الشعر (كثيرا ما اختصر الفن والأدب بالشعر لكونه هو الركن الأساس والمحرك الوحيد للوطن العربي في مراحله التاريخية) والفن والأدب العربي عموما أنه لا يمثّل ثقافتنا، وأننا نجعله في معزل عن التعبير عنا وعن طبيعتنا، ونجعله غالبا مجرّد أداة سطحية للتعبير عن قشورنا. أرى بأن الأدب العربي ومن مطلع الثمانينات تقريبا بدأ ينفصل عن واقعه. عن الشارع الذي يحكي باسمه، ويتحول لشيء من الإفراز النخبوي الذي يحاكي طبقة معينة بعيدا عن بقية المجتمع بطريقة خرج فيها النص الشعري تماما كلوحة سيريالية يحتاج فك طلاسمها للكثير من التأويل والتنجيم، بالشكل الذي غيّب فيها المضامين بكل ما تحمله من أفكار يراد تمريرها من خلال النص للمتلقي، إلى محاولة من المتلقي لإسقاط أفكاره الشخصية وتلمّس وجودها في ثنايا النص ومن ثم الالتقاء معه والاحتفاء به -أي النص-. ولتوضيح رأيي في وجود فجوة ما بين الأدب العربي وواقعه أعيد محاولة الشرح بتنظير أكثر عمومية في المضمون من خلال اقتصار الحديث حول الغياب الواضح للقصيدة الشعرية العربية التي كما ذكرت تمثّل عصب الأدب والفن لدينا: التعاطي القاصر مع الأدب خلق برأيي نوعا من النخبوية الأدبية في كل ما يطرح من نتاج شعري حديث، بالشكل الذي حوّل فيه القصيدة العربية من وسيلة تفاعل وتفعيل ما بين الأديب/الشاعر وما بين المجتمع الذي يعيش فيه بكل أطيافه إلى نوع من الفصل الفكري الذي يمنح الشاعر النخبوية -كما يرى نفسه من خلالها- ويعزل المتلقي العادي ويجعل منه بمعزل عن عوالم هذا الشاعر وتأثيره وأفكاره التي يزعم بأنه يرغب في تمريرها إلى هذا المتلقي. هذا الشكل من الرؤية التي آمن بها أهم الشعراء وكبار منظري الأدب وأكاديمييه لدينا، خلق غيابا حقيقيا للقصيدة العربية وصنع العديد من المشكلات برأيي: أولها- هذا التعاطي النخبوي الذي أنتج النص السيريالي غيّب الكثير من المواهب الشعرية الحقيقية التي تملك الفكر والوعي من ناحية والإيمان الحقيقي بقضية تحكي عنها -كدرويش وأدونيس والبياتي... إلخ- عن التأثير في المتلقي البسيط والعادي وخلق الفرق في نبض الشارع بكل ما يحمله من أطياف، ليتحول في ظل هذا الغياب شاعر بلا قضية وبنصف موهبة شعرية كنزار قباني مثلاً إلى شاعر الجماهير الذي يحكي مشاعرها وهمومها بذات اللغة البسيطة التي يعرفونها حتى وأن أنكرت النخب دور نزار التعبوي الكبير في الشارع العربي. ثانيها- غياب القصيدة الشعرية الفصيحة القريبة من المتلقي وتحولها إلى النخبوية، صنع نوعا من الفراغ الحقيقي والكبير في ذائقة العربي الذي هو شاعر بالفطرة ومتلقٍ مندفع للشعر، مما جعله يبحث عن بدائل وجدها مع الأسف بالشعر العامي الذي أصبح يتنامى في العقود الثلاثة الأخيرة بشكل كبير في جميع أرجاء العالم العربي. هذا التنامي للقصيدة الشعبية لم يأت بالقصيدة الشعرية مفردة وإنما أتى بكل ما تحمله من ثقافة. تلك الثقافة التي رسّخت الموروث القطري الضيّق على حساب التلاقح الأممي العربي الذي لطالما كنا نحلم به. ثالثها- القصيدة المطلسمة قتلت المسرح الشعري -أحد أهم أنواع الشعر- الذي كانت بدايته في العالم العربي تعد بالكثير من المستقبل الجيد. فبعد مسرح شوقي ومن بعده عبدالصبور، لم نجد سوى محاولات الرحابنة التي حتى وإن كانت جميلة فإنها كانت ترسيخا للعامي من الثقافة على رقيّها بالتأكيد. رابعها- غياب المشهد الشعري عن الحياة الثقافية العربية الحقيقية -أقصد بالحقيقية تلك الممارسات الإبداعية القادرة على التأثير والتأثر بالمتلقي- ساهم في خلق مشهد ثقافي أدبي على جانب آخر وبشكل مثير للسخرية. أقصد بالمشهد الآخر هو الصعود الغريب للرواية وممارسة الكتابة فيها. وأقصد بالمثير للسخرية هو الجرأة الغريبة التي أصبح العربي يتعاطى فيها مع الرواية على صعوبتها وأهميتها الأدبية والثقافية ومدى تأثيرها. فأصبح كل إنسان عربي يجيد كتابة جملة مفيدة ويملك عدة ذكريات روائية، بالشكل الذي أصبحت فيه الرواية العربية الرديئة بعددها الهائل أداة تغييب للجميل والقليل الذي يضيع فيما بينها.