هواية مُمتعة يا صاح، أن تنبش التاريخ الاجتماعي المكتوب بشواهد القبور لتستحلب العبر من (بورتريه الميّت) لأن اللغة هي التي تستحث الزائر ليتطوع بعد قراءة محتواها بالدعاء له بالمغفرة، أو كيل اللعنات له لغرابتها.لغرابتها، بعض الشواهد تكاد تنتزع منك الفاتحة على الميّت بعبارات تحذيرية عن حتمية الترحّم، في محاولة مستميتة لزيادة معدلات نجاحه بمقعد في الجنة، فيما أبدت بعض الشواهد حسرتها وقناعتها بالموت، (ومؤكد صاحبها زول واقعي جداً).واقعي جداً علمُك يا صاح، أن عيونا كثيرة تتفتّح بين الشواهد لاستثمار الحزن وإعادة إنتاج الرحمة المخصصة للأموات، لكنك في المقابر ستجد نفسك مرغماً على قسمتها لأحياء ملحاحين من محترفي التسول.التسول وفق معايير أخلاقية رفيعة شاهدتها بأم عيني، توقفت أسرة عند قبر بدد سنامه عزيف الريح وصفير المطر، وقبل أن تدخل في نوبة دعاء، انطلق شاب مثل سهم من قوس الانتهاز، انكفأ على القبر في حنو مستعيناً بحذائه المرهق يلملم أطراف تربته لأعلى. لم يرفع رأسه قط على طريقة: (شايفين التعب دا). دا شنو، كيف ينكرونك يا صاحبي، وما هذا بمكان يشح فيه الناس وآفة الموت تطل بعنقها الخرافي علينا؟! ما علينا.. ساوى الفتى القبر مستعيناً بكل الأدوات الممكنة، حذاءه وكفيه وبعض أصابع قدميه ثم أخرج من طيات ملابسه (قارورة ماء)، مثل سكيّر راوغ شرطياً لم يكن حريصاً للإمساك به. سكب الشاب محتويات القارورة بحرفية غطت مساحة القبر المتقوس، ثم استعدل ظهره المقوّس مواجهاً أسرة الفقيد، ماسحاً العرق من وجهه المعفّر بالتراب، واستدار ليغيب بين شواهد القبور ولم ينجح بما فيه الكفاية لدس ورقة مالية بجيب بنطاله الخلفي.