في ظهيرة حالكة الحرارة، حملت رغبتي في الحياة وقلت: ل (أزورنّ اليوم المقابر)، بحثاً عن: (هل يصحب الموتى ما علق بحياتهم من كسب وخسران إلى قبورهم)؟! عند بوابة المقبرة العتيقة، تسولّتني غجرية (حق اللبن) لطفلها العالق فيها مثل (ضب) ملتصق بحائط، رغم أنه كان يختبئ خلف ثدي نبت من أعلى كتف أمه وسال عليه. أشفقت عليها وعليه من ضيق القبر وذهبت لحال قبري. تخيّلت نفسي أهمّ بالولوج لدار الراحل «أبو العتاهية» الذي كتب أعلى بيته وهو مازال على قيد شعره: (أتطمع أن تخلد لا أبالك/ أمنت قوى المنية أن تنالك/ أما والله أن لها رسولا/ بها لو قد أتاك لما أقالك/ كأني بالتراب عليك يحثى/ وبالباكين يقتسمون مالك/ ولست مخلفاً في الناس شيئاً/ ولا متزوداً إلا فعالك). يا إلهي.. توقفت عند مقبرة وسيمة الطلعة صقيلة الصنعة مُكلفة. صاحبها كان ناشطاً موهوباً في الثراء، فلم يجد المحبطون بوفاته من المنتفعين بحياته غير إهالة الرخام عليه، وفاء أو غضباً لست أدري. قريباً منه، تمدَّد رجل موغل في الفقر حياً وميتاً، لم يجد ذووه سبيلاً للتعرّف على قبره غير أن غرسوا جوار رأسه قارورة مياه فارغة، حشروا بداخلها ورقة نصف بيضاء عليها اسمه وتاريخ انقطاعه عن حياة المسغبة وطلباً ملحاحاً من المارة بالترّحم عليه. خلي بالك.. (هنا الأثرياء بغير صكوكهم والنقود/ هنا الطامحون بغير طموح/ هنا الجامحون بغير طموح/ هنا يخرس البلغاء/ هنا تنتهي العنجهية/ وتزحف نحو القبور القبور/ بلا خطة أو نظام/ فقير بلا شاهد أو علامة/ كقبر عليه رخام وسور). غداً للمقابر بقية.