أحسبُ أنَّ جميعَ دول العالم المتقدِّمة والنامية تمرُّ الآن بأزماتٍ ماليَّةٍ أوصلتْ بعضَها لمرحلة الإفلاس ودفعتْ معظمَها للتقشُّف وللاقتراض من صندوق النَّقد الدوليِّ أو ستدفعها لأيٍّ منهما أو لهما معاً، وقد نجحَتْ دولٌ منها بالتخفيف من آثار الأزمة الماليَّة وتأثيراتها نوعاً ما، وليستْ بلادنا ببعيدةٍ عن تأثير الأزمة الماليَّة العالميَّة وانعكاساتها وإفرازاتها، ولذلك فهي ستضطرُّ الآن في ضوءِ إستراتيجيَّةٍ ماليَّة أَمْلَتْها الرؤيةُ 2030 إلى أن تقلِّصَ دعمَها الحكوميَّ لسلعٍ إستراتيجيَّة ولخدماتٍ حيويَّة من طاقة وماء وكهرباء انخفضتْ بأسعارها كثيراً في سنيِّ الوفرة والطفرة لصالح المستهلك المواطن عن منطق السُّوق العالميِّ المحكوم بالعرض والطلب؛ وهذا الاضطرارُ سيحمِّل المواطنين أعباءً اقتصاديَّةً إضافيَّةً في جوانب من معيشتهم ومعاناةً اجتماعيَّة لامتصاص تلك الأعباء ولِلتَّأَقْلُمِ مع المتغيِّرات والمستجدَّات الحياتيَّة؛ إذْ عليهم أن يتحمَّلوها كمواطنين باعتبارٍ وطنيٍّ يسهم بعبور الوطن وتجاوزه هذه الأزمة الماليَّة باقتدارٍ تخطيطيٍّ يحفظُ له طموحاتِه وتطلُّعاتِه التنمويَّة في ظلِّ استقرارٍ اجتماعيٍّ ناتجٍ عن ذلك وحافز له، فماذا ينتظر المواطنون من الوطن؟!، وماذا ينتظر الوطنُ من المواطنين في ظلِّ هذه المتغيِّرات الاقتصاديَّة العالميَّة الضاغطة على الدول حكوماتٍ وشعوباً؟!. لا أشكُّ في أنَّ المواطنين ينتظرون من الوطن تعامله مع هذه الأزمة الماليَّة بحسن إدارته لموارده ومقدَّراته الاقتصاديَّة باقتدارٍ تخطيطيٍّ وبمتابعة تطبيقيَّة لصالح التنمية والمواطن تحقِّق بإذنه تعالى ارتفاعَ مؤشِّراتِ النزاهة والعدالة الاجتماعيَّة بمعالجة الفساد الماليِّ والإداريِّ، بل وباجتثاثهما سواءٌ أكان ذلك بجانبهما الحكوميِّ في مسؤوليه وموظَّفيه وميزانيَّته وتنميته، أم كان بجانبهما العام في المواطنين بأساليبهم لتحقيق مكتسباتٍ غير مشروعة على حساب التنمية والخدمات استغلالاً والتفافاً على أنظمة وإجراءات حكوميَّة، كما ينتظر المواطنون من الوطن فوق ذلك التخطيطَ لتنويع مصادر الدخل الوطنيِّ لتنفتح أمام المواطنين مجالاتٌ عمليَّة ووظيفيَّة منتجة تقلِّل من اعتمادهم على وظائف الحكومة وعلى دعمها الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ والمعيشيِّ؛ وبالتالي تعالج البطالة وانعكاساتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة بجهودٍ مشتركةٍ بين الوطن ومواطنيه. كما ينتظر المواطنون أيضاً من الوطن عند رفعه الدعمَ الحكوميَّ عن الخدمات الحيويَّة وعن السلع الإستراتيجيَّة وتحرير أسعارها وفق منطق السوق العالميِّ واشتراطات صندوق النقد الدوليِّ ألَّا يُتْرَكُوا لجشع السُّوق بحجَّة منطقِ العرض والطلب، ولا لأطماعِ تجَّار الجملة المستوردين بدعاوى تلقى على المصدِّر، ولا لتلاعب تجار التجزئة والموزِّعين بحجَّة ارتفاع تكاليف وسائل الإيجارات والنقل، ولا لِسُعَارِ مقدِّمي الخدمات المهنيَّة ومؤسَّسات الصيانة وعمالتها بذريعة ارتفاع الرسوم الحكوميَّة، فعلى الوطن مراقبة كلِّ أولئك مراقبةً صارمةً ومحاسبة المتجاوزين منهم المستغلِّين لمتغيِّرات السُّوق حساباً عسيراً يردعهم ويردع الآخرين المتريِّثين لحين لاكتشاف دور الوطن في حماية المواطن المستهلك. كما ينتظر المواطنون من الوطن ألَّا تأتي خياراتُه الآنيَّة والمرحليَّة المخفِّفة تأثير إجراءاته المتعلِّقة برفعه الدعمَ الحكوميَّ غير مدروسة نتائجها بما يؤكِّد حرصَ الوطن على مواطنيه ووقوفه معهم ولجانبهم؛ إذْ ينبغي ألاَّ يُنْظَرُ لشرائح الأسر السعوديَّة بحسب مجموع دخل أفرادها من عائلٍ وزوجةٍ وأبناء؛ نظرة ستفسَّر بأنَّها أشبه بالهروب من المسؤوليَّة الوطنيَّة، إذْ دخل الزوجة السعوديَّة لا يسهم في مصاريف أسرتها، فتلك مسؤوليَّةُ ربِّ الأسرة واحتساب دخلها ضمن دخل الأسرة سيحرم أسراً ممَّا سيقدِّمه الوطنُ لحساباتها، وسيولِّد مشكلاتٍ أسريَّة ستعصف بكثير منها بتأثير من دخل الزوجة، كما أنَّ الآباء في معظم الأسر السعوديَّة لا يطالبون أبناءهم بإسهاماتهم بالمصاريف الأسريَّة، بل يتركونهم يدَّخرون متطلَّباتِ تكوين أسرهم الصغيرة المنتظرة من تكاليف زواج واحتياجات سكنيَّة وغير ذلك، واحتساب دخولهم ضمن دخل الأسرة سيحرم أسراً سعوديَّة ممَّا سيقدِّمه الوطن لحساباتها، وسيؤخِّر تكوين الأسر الصغيرة للأبناء، وقد يولِّد مشكلات ماليَّة بينهم وبين آبائهم. وأجزمُ أنَّ الوطنَ ينتظر من مواطنيه أدواراً وطنيَّة حقيقيَّة يأتي في مقدمتها الثِّقةُ بالوطن وبرؤيته العلاجيَّة والتخطيطيَّة، والصبرُ على تحقيق أهداف الإجراءات الوطنيَّة ونتائجها، كما ينتظر الوطنُ من مواطنيه أن يحسِّنوا إدارة مواردهم الماليَّة، وأن يتخلَّوا عن كثير من عاداتهم الاستهلاكيَّة، وأن يرشِّدوا مصروفاتهم الغذائيَّة والخدماتيَّة مبتعدين عن الانسياق وراء زيف المظاهر الاجتماعيَّة الكاذبة في المسكن والمركب والملبس، في المناسبات والخدمات، وفي السفر والسياحة الخارجيَّة، فالله تعالى أمر بحفظ المال ونهى عن التبذير والإسراف بقوله «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً»، وقوله: «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً»، الإسراء، آيات رقم 26-27، 29، وقوله «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً»، الفرقان، آية رقم 67، وقوله تعالى: «وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»، الأعراف، آية رقم 31. وأن يهتدوا بهديه عليه الصَّلاة والسَّلام كما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنهما عنه أنَّه قال: «كُلُوا وتصدَّقوا والبسوا في غير إسرافٍ ولا مَخِيلَةٍ»، وكما روى ابنُ عباس رضي الله عنهما عنه أنَّه قال: «كُلْ ما شئتَ والْبَسْ ما شئتَ ما أخطأَتْكَ اثنتانِ: سَرفٌ أو مَخِيلَةٌ»، فهل سيعبر المواطنون الأزمةَ الماليَّة مِنْ ضفَّةِ الإسْرَافِ لضفَّة التَّرْشِيْد؟، وهل سيعبر الوطن هذه الأزمة من ضفَّة الفَسَادِ لضفَّة النَّزَاهَةِ؟، وبذلك سنحمد للأزمة الماليَّة هذا العبور الثقافيَّ من ثقافة سلبيَّة لثقافة إيجابيَّة، ولذلك سيقدِّر الوطن والمواطنون للرؤية 2030 هذا التأثير المنعكس من إجراءاتها لعبور الأزمة الماليَّة، ولعلَّ ذلك أيضاً ما ينتظره الوطن والمواطنون ممَّا سيجعل ذكريات الوفرة والطفرة والأزمة ثقافة ينقلها الآباء والأمَّهات لأولادهم ويتعلَّمونها في مدارسهم وجامعاتهم.