حينما تُدر الذاكرة حبال ذكرياتها، صوراً تترى، مواقف لا تنسى، تعلق بعض تلك المواقف في جدار الوعي الحالي، تُرى لماذا جرى ذاك التصرف؟ ومما نبع هذا المزيج الفريد من التميز ليطبع نفسه في صفحات تاريخٍ قد يكون كبيراً مع كبر أصحابه، وقد يبقى صغيرا إن ظل الصغير هو الصغير؟ لكنها في النهاية مواقف إنسانية أبدع الروائيون في تخليد منعطفاتها ومنعرجاتها الفكرية والنفسية لتبقى إرثاً للشعوب بكافة ألوانها وأشكال ثقافاتها. شاب عربي خليجي، سعودي الانتماء، رضع من أجواء الثمانينيات الصاخبة بأصوات الصحوة والزجر المورث للتقوى، ومن أجوائها الباذخة بالجمال والفن المتراكم على مدى عقود ذهبية سابقة، رضع الذوق المحب لجمال الخلق والمؤمن بتعارف الشعوب وتكامل الإنسان، وحقه في الشعور بالكرامة أينما كان. كان ثمة شبان صغار يعبثون في مثل هذه الأيام من امتحانات العام، وكان صاحبنا أعلاه يلبس ملابس عمله التي تساوي بينه وبين مختلف طبقات زملائه، وفي غمرة عنفوان الحماس لشبان تلك المدارس الثانوية أهال بعضهم سيل السباب على عامل مطعمٍ كان يخدمهم، أشاح العامل بوجهه عنهم وعن أصوات ضحكاتهم واستهزاءاتهم مكتفياً بالتجهم وببضع كلماتٍ لمثل هذه المناسبة استخرجها من ذاكرة لغته الأصلية. وقف صاحبنا الأول بين الفريقين، فريق مهزوم يشعر بالإهانة يمثله العامل، وآخر كسول مستهتر مزهو بتفاهاته يمثله بعض هؤلاء الشبان، دخل بين هؤلاء ليمثل دور أجنبي آخر، تلقى بعض كلمات السخف التي قيلت، أشبع عينه من رؤية حقيقة أمثال هؤلاء وكيف يفعلون بأنفس ضعيفة ذنبها الوحيد أنها أتت تبحث عن عمل، تلقى تلك الكلمات وهو يردد لكنةً تُشبه لكنة عاملٍ آسيوي وحين وصله ذاك التصور لحقيقة ما يفعله الكسالى بالعاملين، فجّر في الجمع الجائر أكثر كلماته المحكية أثراً تشبه تلك التي يعنف بها أبٌ شديد ابناً مهملاً، لملم الجمع الضاحك قبل دقائق المذهول لاحقاً آثار صدمته متسائلاً: هل أنت منّا أم منهم؟، لا.. هو منكم أنتم جميعا، من هذه الأرض، وإلى هذه الأرض تعودون.