مع كل صباح جديد يتكئ نزيه أبو عفش على همومه وأحزانه، ويمضي للاحتفاء بأبجدية الحياة المكتملة مع بزوغ الشمس، يقرأ بقايا الحلم في مآقي العين، يحاور الغيمة الشاردة، ويقول، بوداعة، للعصافير المرحة، الجذلى: مرحبا يا أصدقاء الجمال. بهذه البساطة الباذخة يعانق أبو عفش نهاره الجديد، وبهذه البساطة أيضا يعيش حياته كشاعر حزين، وخجول يؤمن بأن الأمل لا ينبت إلا على أغصان اليأس، دون أن يكون لديه أي وهم بقدرة القصيدة على اجتراح المعجزات، لكنه يراهن عليها، على الفن عموما، وكأنه يتواطأ مع ما قاله رولان بارت حين قال: «الموسيقى تجعلنا تعساء بشكل أفضل»، «والشعر كذلك» يضيف أبو عفش. له فلسفته الخاصة في فهم الشعر، ودور الشاعر، فيقول بنبرة من تصالح مع الأوجاع: «كتابة الشعر ندم دائم، وتوبة مستحيلة»، فالشعر في رأيه «إمعان في الخيبة. إمعان في العذاب...وإذن لا مهرب من الشعر... تماما كما لا مهرب من الألم»، ثم يتابع موضحاً: «يعيش الشاعر حياته كلها، كما لو أنه يستعد للموت. يتسكع داخل متاهة مقفرة، حزينة ومغلقة، كلما تقدم خطوة فيها يكتشف انه في سعيه المرير إلى النجاة إنما يقترب من الهاوية». في حكاية بليغة، أخاذة وموجعة.. يقول أبو عفش محاولا شرح من هو الشاعر: يتحدث بورخيس في كتابه (حيوانات خرافية) عن حيوان غريب يدعى «السكوونك». حيوان خجول، عاطفي، حزين وانطوائي، يتمتع بفراء نادر ودموع معطرة. ولأنه خجول وحزين فهو يمضي حياته كلها مختبئا بين أغصان الأشجار. لا يفعل شيئا غير أن يبكي ويبكي. وهكذا يتمكن الصيادون من تعقب آثار دموعه العطرة تحت قمر الليل. وعندما يحاصرونه وتغدو نجاته مستحيلة...يواصل البكاء حتى يذوّب نفسه إلى دموع. لعل الشاعر هو ذلك الحيوان. وهو إذ يتحدث على هذا النحو الموجع عن الشعر، والشعراء فانه يرفض أن يكون مادة للمساومة على صفحات الصحف. هو يرفض كشف هذا الشقاء لقراء عشوائيين، ولا أدري كيف وقع أبو عفش في مصيدة البوح لصحيفة «الرياض» رغم رفضه لدعوات كثيرة إلى الحوار. هو يؤثر الابتعاد عن الأضواء، والصحافة، وإذ وافق، على مضض ربما، لم يشترط لإجراء الحوار سوى أن يكون بعيدا عن طبيعة الحوار التي تشبه التحقيق! قال سنثرثر، ونتحدث ولعلك تستفيد من هذا الحديث، وتلك الثرثرة ليكونا مادة لحوار ترغبه أنت، وتطلبه الصحيفة. رغم هذا التمهيد الذي جرى قبل الموعد الذي حدّد في الثامنة مساء بمنزله في مشروع دمر بدمشق، آثرت أن أحضّر بعض الأسئلة كمحاور للنقاش، وحين رأى الشاعر ورقة الأسئلة ارتاب قليلا، لكنه سرعان ما أبعد الشكوك حين أبعدت الورقة جانبا، ورحت أتصنع أسئلة، وكأنها ولدت للتو، وهي فعلا كانت كذلك، فشرعت في النقاش حيث أنقذتني الموسيقى الكلاسيكية المنبعثة من التلفزيون التي كان يسمعها الشاعر باهتمام، فخمنت، ولعلني أصبت، بأن الموسيقى ستكون بداية موفقة للحوار، ورحت أسأله عن الفروق بينها، وبين الشعر فقال: إذا كانت مادة الشعر هي الكلمات، فجميع الناس يستخدمون الكلمات، وهي لغة شائعة. من يستطيع أن يثبت، مثلا، أن ما أحكيه لك الآن ليس شعرا، وأن ما كتبه دانتي هو الشعر؟ المقاييس في الشعر ملتبسة، وغامضة، أما في الموسيقى فليس ثمة لغة شائعة، أو لغة الجميع. الموسيقى هي لغة الموسيقيين فقط. في الكتابة هناك من يعمل بالكلام، وهي بضاعة متوفرة لدى كل الناس، يتم استخدامها من قبلهم ومن ثم يتم التمييز، أما لغة الموسيقى فلا يستخدمها إلا الموسيقي. ٭ رغم هذا الاحترام الذي تكنه للموسيقى، وتقصد طبعا تلك الموسيقى الكلاسيكية المدهشة، لكن الواقع يقدم لنا أمثلة مناقضة، بمعنى أن أمسية لنانسي عجرم أو علي الديك تستقطب اهتمام الآلاف لكن موسيقى بيتهوفن وموتسارت...التي تتحدث عنها لا تثير اهتمام إلا عدد قليل ومحدود؟ - أنا، كذلك، احب علي الديك، وغناء النَّور، وموسيقى العازفين الأميين الذين لا يعرفون النوطة...، وبنفس الوقت أتيحت لي فرصة ان اعرف، ومن ثم أن احب، موسيقى بيتهوفن وموتسارت، وهايدن...وغيرهم المشكلة كما قلت هي أن الموسيقى لغة غير شائعة. الشائع بين أيدينا هو موسيقى العامة المتمثلة في غناء علي الديك، أو النَّور، أو نانسي عجرم، تماما مثل اللغة المحكية. لكن حينما نتمكن من التعرف على الموسيقى الأخرى، واقصد موسيقى بيتهوفن أو موتسارت، واكتشاف جمالياتها نتساءل عندئذ: إلى أي حد نستطيع ان نحبها؟ أذواقنا ليست موضوعة، الآن، قيد الامتحان حتى نعرف هل نحب موسيقى باخ أم لا؟ ما أدراني أنني احب اللغة الأسبانية أم لا إذا كنت أجهلها. الموسيقى الكلاسيكية بدورها لغة مجهولة، والشعر لغة مجهولة، والفن بشكل عام لغة مجهولة. من يستطيع أن يثبت لي بأن البادية السورية لا يوجد فيها 50 عازف بيانو عظيما لا يعرفون ما هو البيانو؟ كيف سأعرف انه لا يوجد عازف بيانو مثل شوبان، هناك، إذا لم يتعرف أحد من سكانها على البيانو. هم يعرفون الربابة فيبرز بينهم عازفو ربابة بارعون، لكن في بولونيا وألمانيا، كمثال، لا يوجد عازف ربابة بارع لأنهم لا يعرفون الربابة مثلما لا يعرف سكان البادية البيانو. أنا أظن ان بالإمكان تربية ذوق الإنسان بتعريفه على اللغات الفنية. في آخر صفحة من كتاب «ارض البشر» يتحدث اكزوبري عن قطار مهاجرين مليء بالرجال، والنساء، والأطفال، والعمال البسطاء...فيقول ما يعنيني، الآن ليس، التفكير بفقر هؤلاء، ولا التحنن والشفقة على آلامهم، ما يعنيني هو التفكير والسؤال: كم موتسارت مذبوحا بين هؤلاء الأطفال؟، كم إنسان لم تتح له الفرصة للتعرف على نفسه؟. ٭ إذا، كيف تعرفت أنت إلى نفسك، ما الذي قادك إلى اختيار الشعر لغة لمخاطبة الآخر، ولتدوين الهموم؟ - أنا تعرفت على نفسي بالصدفة، في لحظة ما، أمام مصادفة ما، اكتشفت الشعر، وضعت أمامه، فاكتشفت هذه القيمة الجمالية الكامنة في هذه اللغة التي هي الشعر. وربما تسألني ما هي هذه المصادفة بالضبط؟، فأقول هي تلك المصادفة التي يمكن ان يتورط فيها أي إنسان، وفيما بعد تصبح هي القانون. أنا لا اعرف إلى أي درجة كان من الممكن أن أكون حدادا حينما أتذكر الآن شغفي الشديد، في الصغر، بهذه المهنة. كنت أتعمد الذهاب لاقف أمام دكان الحداد الريفي في «مرمريتا» (مسقط رأس الشاعر) وأراه يستخدم تلك الأدوات البسيطة، كالمطرقة، والسندان..ويحمّي قطعة الحديد الغشيمة على الجمر ثم يضعها على سندانه، ليصنع منها الأدوات: السكين، المنجل، فأس الحطاب، حدوة الحصان...الآن أتخيله كيف كان يرفع بالملقط قطعة الحديد من النار وكيف كان يتأملها بشغف حين تتحول إلى أداة جميلة. كنت اقف، أيضا، ساعات أمام دكان النجار، والى الآن أتذكر رائحة الخشب واقف مندهشا أمام هذه العبقرية العظيمة التي تصنع من الخشب أشكالا مدهشة. شغف هذا النجار وذاك الحداد هو تماما مثل الشغف الذي أنا الآن أتأمل به مسودات قصائدي، واعمل عليها. نفس الشغف، والدهشة، والغبطة التي تنتاب الإنسان أمام جمال ما يصنعه. كيف سأعرف بأن هذا الإنسان لو ولد في امستردام ودخل مدرسة فيها بيانو لما كان موسيقيا عظيما. هذا الإنسان الذي يملك كل هذا الشغف بالجمال، والإحساس العالي به، ماذا سيكون حينها، هل من الممكن ان يبقى حدادا، أنا على يقين بأنه لن يبقى حدادا. كل الأدوات التي يملكها الإنسان هي حواسه، وفي لحظة المصادفة التي توضع فيها هذه الحواس قيد الامتحان، وهي تستلطف هذا وتنبذ ذاك، يتقرر مصير الإنسان. ٭ ألا تلعب التجارب والخبرات الحياتية دورا في الميل نحو هذا الفن أو ذاك، أليست المسألة تراكمات في النهاية؟ - ليست تراكمات، كان من الممكن ان أكون حدادا أو نجارا، ولو كنت أحدهما لكنت سعيدا مثلما أنا الآن سعيد لكوني شاعرا، واحترم حياتي ونفسي واشتغل عملي بإخلاص، اقصد حرفة الشعر أو حدادة الشعر، أو نجارة الشعر..هي ليست تراكمات لأن كل هذه الهواجس تبدأ منذ الطفولة. مصير الإنسان يبدأ مع أول فترة تتفتح فيها حواسه. ليس بتراكم الخبرات يصبح الإنسان قاتلا أو لصا أو شاعرا أو مربي نحل..تراكم الخبرات تغني علاقة الإنسان مع ما صار هو، تغني علاقة الشاعر مع الشعر، والنجار مع النجارة، والفلاح مع الزراعة..لكن اللحظة التي تتفتح فيها الشهوة إلى هذا المكان الأولي: الكلام أو الحديد أو الخشب تبدأ في مرحلة مبكرة من الطفولة. في هذه الفترة رأيت معجزة الخشب، والحديد، والموسيقى التي تعلقت بها عن طريق عمي الذي كان يعزف على العود، وبنفس الوقت، يكتب الشعر. كان عمي يسحرني بعزفه وشعره، وأنا لم أكن أعرف شيئا عن الموسيقى أو الشعر، فقد سمعته يقرأ الشعر ويعزف، واكتشفت أن ما يقوله ويعزفه شيء جميل. هذا الهوس أنا رعيته، وأتيح لي ان يكون إلى جانبي أشخاص يساعدوني في هذا الخيار. كنت أغار من هؤلاء الناس من الحداد، والنجار، والموسيقي..ليست غيرة، بالأحرى، بل إحساس بالاندهاش، فكانت لدي رغبة في ان أكون مثلهم. تورطت، كما ترى، في الفلاحة بالكلمات لأنها ارخص الأدوات، ولكنني لو عدت طفلا، وأمامي كل الأدوات لن اختار الشعر! لأنه بالنسبة لي الأداة الأقل تلبية لما ارغب به من صناعة الجمال، بل كنت اخترت ان أكون موسيقيا أو مهندس عمارة. ولأن الكلمة، في كل مكان وزمان، هي أرخص أداة يستطيع ان يستخدمها من يملك أو لا يملك، الأمي والمتعلم...لذلك اخترت الشعر. ٭ هذا الكلام يثير الاستغراب، فربما لو اتجهت إلى الموسيقى لأصبحت موسيقيا فاشلا، بمعنى أليس من الأفضل ان تكون شاعرا مجتهدا، موهوبا « كما أنت الآن » بدلا من أن تكون موسيقيا فاشلا؟ - بالطبع هذا كلام صحيح، لكن أعتقد بأن المادة المتوفرة في الطفولة التي تخلق الشاعر الموهوب، قادرة ان تصنع الموسيقي الموهوب أو المهندس الموهوب، أو الخياط الموهوب، فالحواس التي تؤهل الإنسان منذ الطفولة ليكون شاعرا موهوبا، لو وضعته في الامتحان الآخر فسيصبح موسيقيا موهوبا قطعا. ويجب ألا تستغرب من أمنيتي المستحيلة لأنني أعتقد أن الموسيقى هي أكثر الفنون كمالا. الآن صرت شاعرا لأن الحواس ذهبت إلى يقين آخر إلى عقيدة فنية أخرى، ومن الصعب الآن ردها إلى البدايات.. ٭ الاستغراب يأتي من أنك تقول هذا الكلام بعد الشهرة الواسعة التي حققتها في مضمار الشعر؟ - نعم أقولها بكل صراحة، الإنسان يحلم بالعودة إلى البدايات، وهذا مستحيل. أنا تورطت في الشعر بحكم المصادفة، وكل إنسان كائن متورط، نابليون كائن متورط فلا نعرف في أي لحظة كان من الممكن ان يكون نابليون مزارعا ممتازا أو مربي خيول عظيما. ٭ وكأنك تلغي دور الموهبة، ألا تؤمن بأن للموهبة دورا في اختيار هذا المنحى دون ذاك، بمعزل عن المصادفة ولحظات الحسم؟ - نعم أؤمن بالموهبة، فهي خلاصة يقظة، ورهافة، وذكاء الحواس والعقل، هذا شيء طبيعي. الموهبة ثمرة شيء يشبه العضلات، عضلة العاطفة، والذكاء، والحساسية...بعضهم يمتلك هذه العضلات وآخرون لا يمتلكون. أنا، مثلا، لا تستطيع ان تجعل مني، مهما حاولت، مصارعا جيدا ليس لأني غير موهوب، بل لأني لست مؤهلا، والفن كذلك. هناك أناس غير مؤهلين للفن، ولكن قد يصبحون فلاحين ممتازين بينما فشلوا في مجال آخر. كي تنصف الإنسان يجب ان تمنحه كامل الفرصة للتعرف على اللحظة التي تدخله إلى باب قدره العظيم، أي تقدم له خيارات كثيرة، لكن نحن، هذه الشعوب الحزينة، ليس لدينا سوى خيارات محدودة. لدي ولدان اختارا الموسيقى بعد أن توفر لديهم أكثر من خيار ولو لم يكونا ابنيّ ربما أصبحا قطاع طرق أو نصابين أو بائعي جوارب في سوق الحميدية. لحظة المصادفة هي التي قادتهما، وقادتني، وقادت الجميع إلى هذا المصير لكن قبل ذلك ينبغي أن يتاح لك جميع الخيارات ثم فجأة تدلك حواسك على هذا الطريق دون ذاك، بمعنى آخر: عندما أقول أنا احب الوردة الصفراء أو أحب هذا العطر فينبغي ان أرى ألوان الورود كلها واشم العطور حتى أستطيع الحكم الصحيح. ٭ ماذا كان يعمل والدك؟ - كان جنديا في الفترة التي استقالت فيها سوريا نهاية الأربعينات، ثم ترك الجندية وكان حاصلا على شهادة «سرتيفيكا» الفرنسية التي تعادل الليسانس الآن. عمل دقَّاق حجر مع أبيه المعمرجي (جد الشاعر)، ثم انخرط في العمل السياسي، فسجن في الخمسينات، نتيجة مواقفه السياسية، خرج من السجن مريضا، وفتح دكانا صغيرا في مرمريتا لا زال يعمل فيه إلى الآن. ٭ تتسم قصيدة نزيه أبو عفش بنبرة سوداوية حزينة، وثمة تراجيديا سوداء تتبدى في سطورها، ما سبب هذا التشاؤم الذي يطغى على شعرك؟ - أنا أستغرب من طرح هذا السؤال، ويزداد استغربي حينما أرى شخصا متفائلا. ما الذي يدعوه إلى التفاؤل؟. ٭ أنا لا أصادر توجهك الشعري، ولا أدعو لأن يكون متفائلا، بل أقول أن ما نراه في القصيدة لا يعكس صورة أبو عفش في الحياة، فأنت، كما نعلم، ليس لديك معاناة كالتي تتحدث عنها قصيدتك، كما أن حديثك مفعم بالتهكم، وأحيانا بالدعابة وهذه لا تتناسب مع أجواء قصيدتك المتشائمة؟ - هل تريدني أن احمل، مثلا، كيس المآسي على ظهري وأمضي حتى تتيقن من أن قصيدتي تعكس صورتي! أنا مضطر لان استيقظ صباحا، وأن يكون لدي أصدقاء...أتصالح معهم ومع الحياة...ومضطر لأن أقضي معهم أوقاتا سعيدة، باختصار مضطر لان أعيش الحياة، لكني مضطر أيضا لان استخدم حواسي لأرى، واسمع، وأتعلم..ما أراه، واسمعه، واعرفه لا يشجع الإنسان على القول: «يشرفني الانتماء إلى هذا العالم»، أنا لا يسعدني ولا يشرفني ذلك لكني مضطر لمواصلة السير إلى آخر مشوار الحياة. أنا أكتب ما تمليه علي حواسي، أمين على النقل، ولست مسؤولا عن تلك السوداوية. لست أنا من ارتكب المجازر، وشن الحروب التي تقوم في كل يوم، وفي كل مكان، وعلى مدى تاريخ البشر، ولست أنا من شكل الجيوش واحتل أراضي الآخرين، وأرسل الجنود من قارة إلى قارة حتى يموتوا بعيدا عن أمهاتهم...لكن هذا يحصل، وبكل حزن، أنا أرى ذلك، ولا أستطيع التصرف على أساس أنني لا أرى، ولا اسمع. نعم، في لحظات ثانية حينما أسير في الشارع أمام دكان ورد، تلفت نظري وردة صفراء فآتي بها واضعها على الطاولة، يسعدني أن أرى وردة على طاولتي، وأن ازرع على شرفة منزلي نباتات السيكلاما، وأن اسمع تغريد الحسون...إذا لم نستطع ان ننتبه لهذه التفاصيل الصغيرة ستسحقنا الحقائق الكبرى التي هي حقائق الحياة عبر التاريخ إلى درجة الإحساس بأنك، وأنت تتقدم داخل الحياة، تشعر في كل لحظة بأنك تخطو باتجاه الموت، لم نعد نشعر بأن للحياة طعم الحياة، هي لها طعم الموت المؤجل. ٭ لكن الموت من بديهيات الحياة، فهل تقصد: طالما ان الموت هو نهاية الحياة، فلماذا الحروب، والمجازر، والدماء؟ أنت تعترض على أشكال، وأسباب الموت، أليس كذلك؟ - نعم هذا ما اسأله: طالما ان الحياة منحت من اجل ان تعاش كحياة، فلماذا يصر كل رعاة الحياة على تحويلها إلى مشوار موت، ولست فقط أنا من يطرح ذلك بل كل من كتب، وفكر...وكل أصحاب العقائد، والمذاهب من بوذا إلى الآن يطرحون نفس السؤال، لكن المشكلة ان بوذا لا يستطيع ان يقنع جورج بوش، ويسوع المسيح لا يستطيع ان يقنع هتلر. ٭ طيب، في ظل هذا الواقع المتردي والمؤلم، ما الذي يمكن أن يقدمه الشعر، هل يستطيع بهشاشته، ورقته أن يغير شيئا؟ - ومن قال لك أن غير الشعر قدم شيئا! ماذا قدم أصحاب العقائد الإنسانية، ماذا قدم الفلاسفة، والمبدعون والفنانون وعباقرة العقل الإنساني؟... كلهم قدموا أشياء عظيمة لكن ماذا استطاعوا ان يغيروا في الناموس العملي اليومي للحياة؟ لا شيء! لأن دونالد رامسفيلد(وزير الدفاع الأمريكي) أقوى من أفلاطون، واقليدس، والمعري، والمتنبي، وجان بول سارتر...وطبعا نزيه أبو عفش. هؤلاء فقط يحلمون. الذين يعملون في الفكر، والكتابة، والفلسفة، والتأمل، والفنون...هم أشخاص يحلمون وهم عزل، ثم يأتي آخرون يكرهون الأحلام ولديهم القوة فيفرضون الخيارات الأكثر ألما، والحياة ستبقى إلى الأبد تمشي على هذا المنوال والى تلك الهاوية لأن العصا أقوى واقدر من العقل ومن القلب، ومع ذلك في كل سنة، بل في كل يوم، سيظهر أفلاطون جديد، واكزوبري جديد، وبوشكين جديد..لكن لن يستطيعوا فعل شيء. ماذا يفعل الشعر؟! من قال ان الشاعر حين شرع في الكتابة كان لديه وهم بأنه قادر على فعل شيء، كان فقط يتألم. الفن كله هو صوت ألم الإنسان، وأمله الذي هو يأس مقلوب، لماذا آمل ما دامت الحياة سعيدة، والإنسان لطيف، وخيّر، ونبيل، وكريم..ملايين السنين والإنسان يأمل، بمعنى هو إنسان يائس، وكلما ازداد ألما ازداد أملا. لماذا الفن؟ ما فائدة الوردة الجميلة، ما جدوى تغريد البلبل...هذه لا تقدم ولا تؤخر شيئا، فقط هي لحظة السكينة التي تخصك، ولا تقدم أو تؤخر شيئا في مذاق طعامك، ولا في إنتاج مزرعتك، ولا في درجة حرارة بيتك..ولكن هذا الجمال هو صوت حزن الإنسان. رولان بارت قال جملة اعتبرها من افضل ما كتب: «الموسيقى تجعلنا تعساء بشكل أفضل»، وهو يقصد الفنون عامة. ميكل أنجلو، دافنشي، عباقرة الموسيقى والرواية..لم يغيروا شيئا، غير انهم يلطفون تعاسة الحياة مثلما تجمّل أشعة الشمس الجميلة والغيمة الرهيفة حزن الإنسان. هناك أشخاص، قادة حياة الناس، يسخرون حينما تحكي لهم عن الغيمة، والعصفورة، والزهرة لأن أدواتهم مختلفة. أما نحن فصنف من البشر نعمل في مهن الهاوية، نحن نلطف مذاق الموت المفروض مثل العصفور الذي يغني ويهز ذنبه، أي يغني ويرقص، ولا يعنيه التغيير، وفي الحقيقة هو لا يغير شيئا. ومع ذلك فان الفن هو الشيء الذي بدونه تغدو الحياة موتا مطلقا، وإلا أي غباء عندنا عندما نقول هذه القصيدة رائعة، وهذه الوردة جميلة، وتلك اللوحة مدهشة..ما نفع الوردة، والقصيدة، واللوحة. هل يمكن أن نسأل كم غرام ذهب في القصيدة، وكم كيلو حديد في الزهرة!..لكن هذا الغباء يخبرنا عن جانب راق في الإنسان. هذا الغباء يجعلنا سعداء بما ليس شيئا لكن هذا اللاشيء هو أغلى شيء: «يا إلهي... الحياة جميلة/ تملأ قلوبنا بالرضا، وأحضاننا بالأزهار/ يا إلهي...كم نحن أثرياء/ يكفي ان نملك كل هذا.../ كل ما لا يساوي شيئا!». ٭ ما هو طقس الكتابة لديك؟ كيف ومتى تكتب، بأية هواجس تحمل القلم وتبدأ بكتابة قصيدة؟ - كل من يقول لك ان لديه طقسا معينا للكتابة فهو يكذب، لأنه لا يوجد عمل فني يمكن أن يعرف صاحبه متى يولد. هناك شيء من الرغبة في الخداع للإيحاء بأنه يعمل شيئا أشبه بالسحر، لا يمكن إنجازه إلا في ظروف سرية وغامضة. بعض قصائدي جاءت فكرتها وأنا أسير، أو أشاهد التلفزيون، وكتبت مسودات بعضها في السيارة..لحظة ولادة القصيدة تأتي بشكل مباغت، فقصيدة «بيت الغيمة» التي كتبتها اليوم، مثلا، جاءت فكرتها فجأة. ذهبت إلى مكان عملي في دار المدى صباحا وأنا ضجر مثل كل يوم، ولم يكن هناك أي شيء يوحي بالإلهام، أو العبقرية، أو الولادة العظيمة..وبينما كنت أحتسي القهوة ألحت علي فكرة ذكرتني برغبتي في ان يكون لي بيتا في بلدتي مرمريتا، فتذكرت النكتة التي كنت أرويها لأصدقائي عن الغيمة. كتبت المسودة وصرت حزينا فعلا، لم يعد الموضوع له علاقة بالبيت كحجارة، وإسمنت، وحديد، صرت اشعر بأنني احكي عن فكرة الحياة نفسها، وأنا لا أطالب القارئ بهذا التأويل طبعا.الشاعر لا يكتب طوال حياته، لكن اللحظة التي تؤذن بميلاد قصيدة تكون مجهولة، ولا يستطيع أي طقس ان يستحضرها، لكن تلك اللحظة تكون خلاصة الهواجس، والتجارب، والقراءات: «القصيدة التي تستهلك ورقتين صغيرتين في الدفتر/ ربما تكون قد استهلكت سنتين كاملتين من الحياة»، هذا الكلام ليس إنشاء بل حقيقة، ففي دواخل الشاعر حواس تعمل بشكل سليم وفي لحظة من اللحظات تفصح عن نفسها وتقول تفضل الآن سنكتب قصيدة. ليس صحيحا من يقول «كتبت قصيدة في نصف ساعة» على أساس ان هذه عبقرية، القصيدة كتبت في نصف ساعة بعد أن نضجت في ذهن الشاعر أشهرا وربما سنوات. قصيدة «القلعة»، مثلا، عاشت معي أكثر من عشر سنوات. البذرة الأولى للقصيدة بقيت مدفونة في الظلام السري للذاكرة، والحواس، والمخيلة إلى أن دونت في لحظات. ومن الممكن أن تأتي قصيدة في ظرف لا أكون فيه مهيئا لاستقبالها فتموت كما حصل لكثير من المسودات. وقد تستغرب من قولي بأنني اكره الخيال، ولا احب هذه المفردة العزيزة على قلوب الشعراء، لأنني اعتقد أننا نستخدم المخيلة لاستعادة تفاصيل الحياة الحقيقية، التفاصيل الأكثر واقعية من الواقع. لا يستطيع أحد ان يخترع شيئا في الفن، يستطيع ان يستعيده فحسب. بوسعي القول «في ما يخص تجربتي» إن الشاعر كائن فقير المخيلة. مخيلة الشاعر أحلامه وكوابيسه. ولعله لا يفعل شيئا غير إعادة إنتاج هذه الكوابيس، والأحلام: يعيد إنتاج مدخرات الذاكرة. افضّل بدلا عن المخيلة مفردة الذاكرة. الفن لا ينشأ في المخيلة بل في الذاكرة. قصيدة «القلعة» كتبتها الذاكرة وليست المخيلة، وكذلك قصيدة «رعاة الظلام»، وقصيدة «سلالم نوتردام»...وغيرها، ورغم المناخات السوريالية، والخيالية فإنها مستمدة من الذاكرة ومن وقائع الحياة. أحيانا يمهد للقصيدة بالأحلام والكوابيس، فقصيدة «التعويذة» جاءت عبر الحلم ولكنني كتبتها مستيقظا مع احتفاظي بجو الحلم، أما قصيدة «الولد ذو القميص الأصفر» فهي نتاج كابوس. أنا ازعم ان كل ما كتبته، هو نص تسجيلي، أنا اكتب نصوصا تسجيلية، فقصيدة «يوم قادتني جدتي لنشهد هبوط الموتى» قد يعتقد أحدهم أن هذا نص سوريالي، أقول هذا نص تسجيلي تماما، أنا شاعر تسجيلي وساذج. ٭ لكن السذاجة ليست بادية في قصائدك، فهي قصائد عميقة؟ - أنا اعرف إلى أي مدى هي تسجيلية، وساذجة. ٭ تقصد بالسذاجة العفوية والتلقائية؟ - لا، أقصد السذاجة حرفيا، فالسذاجة هي أنبل شيء. ٭ ولكن السذاجة قد توحي بمعنى سلبي؟ - نعم، ديستوفسكي كتب رواية عظيمة عن «الأبله» وبهذا العنوان، فتبين أن بطلها الأبله يشبه المسيح في الطهارة المطلقة، البساطة المطلقة أو السطحية المطلقة. لماذا يجب ان يكون الإنسان فيلسوفا، وجديا، وعميق التفكير. ٭ أنت تقول عكس ما تفصح عنه قصيدتك، فهي عميقة وجدية؟ - أنا أقول لك باني شاعر تسجيلي، وأستطيع ان أرد كل نص من نصوصي إلى جذره الواقعي حتى ما يبدو انه نص سوريالي. ٭ بمن تأثر نزيه أبو عفش؟ لمن قرأ ويقرأ، من من الآباء له الفضل في كونك شاعرا؟ - تأثرت بكل من قرأت لهم، وبكل من أحببت له كتابا أو قصيدة أو بيتا أو كلمة، تأثرت بديستوفسكي، وتولستوي، وسانت اكزوبري، والبير كامو، وايفان تورغينييف...تأثرت بنديم محمد، والمعري، وأبي تمام، وأمين نخلة...كل ما وقع عليه الأذن أو العين من الجمال صار جزءا من المادة الدراسية التي تعلمت ونجحت أو رسبت فيها. لا يستطيع أحد ان يزعم بأنه مر مرور الكرام على مواد الجمال. هذه كلها دخلت دهاليز الذاكرة والوجدان وتركت أثرا. أنا اكتب ما تعلمته من الجمال الذي صنعه الآخرون. لا يوجد إنسان يستطيع ان يخترع الجمال، لا يوجد إنسان يستطيع ان يخترع زهرة عباد الشمس وحين يرسمها فان كوخ فهو يعيد التأمل في الزهرة. كل من يعمل في الفن هو ناسخ، وهناك نساخ ناجحون ونساخ غير ناجحين. ٭ لكن في الفن يوجد التجريد والسوريالية وهذه بعيدة عن الواقع، وعن النسخ ؟ - حتى السوريالية هي قراءة أخرى للواقع، والسورياليون لا يزعمون غير ذلك لأنه لا يوجد واقع غير الواقع، حتى الخيال جذره واقعي. واستكمالا لسؤالك السابق أضيف: في كل يوم أضيف لأساتذتي أسماء جديدة حتى في الأيام التي لا أقرأ فيها شيئا، وهذه القائمة ليس فيها فقط أسماء النجوم الكبار ماركس، وبورخيس، وسرفانتس، واليوت..هناك تلاميذ صغار آخذ منهم الدروس، شعراء شباب غير معروفين. الفن هو الرغبة في التعلم، وعدم الخوف من الاعتراف بأننا نتعلم ليس فقط من آبائنا بل حتى ممن يعتبرون أنفسهم أولادنا. من يعمل في الرياضيات، الآن، يفهم اكثر من فيثاغورس لكنه يقول «فيثاغورس استاذي». اينشتاين أهم من اقليدس لكن انشتاين بدون اقليدس لا يساوي شيئا. قد تستغرب وتقول بأن هذا يحدث في العلم لكن الفن ليس تراكميا، وهذا خطأ، كيف كنت سأكتب الشعر لو لم أقرأ ما كتبه الشعراء الذين احبهم مثل: محمود درويش، ومحمد الماغوط، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأدونيس... ويصدف أحيانا، في الفن، من يتفوق على أستاذه، فبالنسبة لي محمود درويش أهم من المتنبي، لكن ليس كل من قرأ المتنبي صار افضل منه. ٭ قلت، في البداية، بأنه لا يوجد معيار حاسم للتمييز بين الشعر الرديء والجيد، فكيف توصلت إلى هذه النتيجة؟ - أولا أنا لا أقارن بين الرديء والجيد، بل اقدم انطباعا حول شاعرين يعتبران علامة كبيرة، ليس فقط في تاريخ الكتابة العربية، بل في تاريخ الكتابة البشرية، والأمر الآخر ان كلامي أيضا ليس معيارا عاما، بل معياري الشخصي. وحينما أتحدث عن آبائي المعاصرين لا أستطيع ان أنسى ان محمود درويش من آبائي، وكذلك أدونيس، ونزار قباني، وبدوي الجبل كل واحد ترك البصمة العميقة التي لولاها لكنت شخصا آخر غير نزيه أبو عفش الشاعر.