كثيراً ما يعاني الواحد منا حالة اغتراب شخصية، ربما يشعر بها ولكنه في كثير من الأحيان يتجاهل «الصوت» الذي يأتيه من الداخل فيهرب منه ليدخل في «القطيع»، ليتم نكران الذات والدوران في حلقة مفرغة من خلاله، ذلك هو الاغتراب الذي حاولت كثير من الأعمال الإبداعية ملامسته ومعالجته من خلال الأفلام السينمائية أو الروايات العالمية «لا أقصد المحلية ولا العربية»؛ حيث لا تخلو رواية أو فيلم سينمائي من ملامسة حالة «الاغتراب» الذي يُعرِّفه إريك فروم بأنه «الفشل في التفاعل بين العوامل النفسية والعوامل الاجتماعية». كما أنها تسبب حالة انعدام في التوازن النفسي، وينتج عنها -حسب رؤية فروم- عدد من أحداث العنف والانحرافات المدمرة. وفي محاولتنا للاقتراب من الذات سنجد بأن تلك الحالة موجودة بشكل ملحوظ لعدد من الأسباب أهمها غياب الوعي الكامل لدى المؤسسات التعليمية التي ظلت تدور في أفلاك المؤسسات الرسمية، بعيدة عن صناعة الفرد؛ لذا حينما تعاني الأسرة الصغيرة من تلك الحالة السوداوية التي ستنقلها بشكل غير مباشر لأفرادها ليكونوا ضمن دائرة الاغتراب، المنتهى بالسوداوية غير المحمودة؛ حيث يذهب الواحد منا في آخر محطات يومه إلى وسادة لا يعلم ماذا أنتج وأي طريق ينتظره الغد. كما أن كثيراً من الأعمال الأدبية ناقشت هذه الظاهرة، وقد تستعيد ذاكرتي الكاتب التشيكي إيفان كليما «حب وقمامة»، وهو عنوان «شعره البعض مقززاً»، (فكيف نتخيل أن نجمع بين حب كعاطفة راقية وروائح العفن)، ولكن حسب رؤية كليما بأن القمامة هي أصدق الموجودات في المجتمع وتخرجه بدون عيوب لتنتهي في المحرقة. كليما الذي ترك مهنته الأكاديمية وعمله الصحفي وأصبح عامل قمامة يجمع الحكايات من الشارع ويتحول لعامل نظافة آخر الليل؛ ليغوص في مشهد الاغتراب داخل الفرد سواء في وطنه أو مع نفسه. وهذا ما يعني بأن الاغتراب له أشكال متعددة يبدأها الفرد من المحيط الصغير حينما يبدأ بسرد أحلامه على من لا يستطيع فهمها، ويمارس دور القمع عليها، أو ممارسة دور قيادي في قمع الاختيارات للأفراد، وهذا ما يمارسه البعض دون وعي قاتلاً ل «الحوار» ممارساً لدور «الملقن»، وهذا الدور إذا تخلصت منه الأسرة سنجده في «منهج التعليم»؛ حيث إن المناهج التي تم تغييرها لتكون حوارية دون وعي من «الملقن»، ظلت تدور في فناء المدرسة دون وعي. وكي نتخلص من تلك «الأوراق الخريفية» التي تعلق بجسدنا وننفضها في «مواسمها»، وننطلق في مواسم الربيع علينا أن نسكن ذواتنا لفترة زمنية؛ كي نستطيع البحث عن النطفة الخالدة بداخلها، ولعلي هنا أستحضر الأعمال الروائية للكاتب بولو كويلو سنجد بأنها تبحث عن حالة الخلود من «الخيميائي» إلى «الزهير» مروراً ب «إحدى عشرة دقيقة»، جميعها تبحث عن شعلة الضوء داخل الفرد، وتحاول التركيز عليها، ولعل كويلو لم يستطع الذهاب لتلك المرحلة إلا بعد خلوة مع النفس قضاها في «استثمار العقل»، بالقراءة والاطلاع على المكون الأسطوري والنفسي، رابطاً ذلك بالحالة الاجتماعية التي يتشكل بها المجتمع، وإحساسه بضرورة الخلود إلى «راحة داخلية»، لا تنزع يومه، ويمكن لكل فرد منا النزوع لتلك الحالة فقط حينما يستمع لصوته، ويتعلم فن الإصغاء لذاته. إن حالة الاغتراب تلك التي نعاني منها اليوم هي نتيجة دخولنا في ضجيج القطيع، دون الاستماع لذواتنا ومعرفة أعماقها وحدودها وطموحاتها مهما كانت بسيطة في رؤيتها وأحلامها الصغيرة.