أحدثت زيارة الداعية المصري وجدي غنيم ضجة واسعة في تونس، وذلك بسبب البعد التحريضي الذي سيطر على خطابه، الذي عده الكثير من المثقفين والحقوقيين والإعلاميين تهديدا للوحدة الوطنية، إضافة إلى إثارته لمسائل غريبة عن تقاليد التونسيين وفهمهم لنصوص الإسلام وتعاليمه مثل ختان البنات. ومن المفارقات أنه في اللحظة التي تتجه فيها أنظار الكثيرين في المشرق العربي إلى تونس شعبا ونخبة وخطابا إسلاميا وتجربة واعدة رغم الصعوبات والتحديات الخطيرة، هناك من التونسيين من تشرئب أعناقهم وتتشوف قلوبهم لسماع بعض الدعاة الذين ذاع صيتهم بالمشرق وروجت لهم الفضائيات الدينية خلال السنوات الأخيرة. وأذكر في هذا السياق، أنني التقيت مؤخرا بعدد من المثقفين المصريين الذين شاركوا في الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالحمامات قبل أسابيع قليلة، ومن بينهم على سبيل المثال يحيى الجمل الذي كان نائب رئيس الوزراء في أول حكومة ما بعد الثورة، وكذلك عالم الاجتماع الليبرالي المعروف سعد الدين إبراهيم وحسن نافعة الباحث في الشؤون الإيرانية. وذكر جميعهم بأنهم يتابعون باهتمام كبير الكيفية التي ستتعامل بها حركة النهضة مع صياغة الدستور التونسي ومع تحديات المرحلة الانتقالية، لأنهم يعتقدون بأن ذلك سيؤثر بالضرورة -سلبا أو إيجابا- على أسلوب الإخوان المسلمين، وبالتالي ستكون له تداعيات حاسمة على مستقبل التجربة المصرية. نفس الملاحظة سمعتها من أصدقاء ليبيين ويمنيين وغيرهم. فكيف يمكن لنا أن نفسر هذه المفارقة؟ من المؤكد أن جزءا مهما من الرأي التونسي لايزال يبحث عن خطاب ديني يشعره بالاطمئنان، ويرتقي بوعيه ووجدانه إلى درجة من درجات الإيمان العميق والفاعل. ويجب في هذا السياق أن نقر بأن مثل هذا الخطاب غير متوفر في الساحة المحلية، أو أنه خطاب خافت، لم تتوفر له الظروف والشروط المناسبة للبروز والوصول إلى الجمهور الواسع من التونسيين. لقد تم إهمال هذه المسألة طويلا، ومنذ المرحلة البورقيبية. كانت معظم خطب الجمعة والدروس الموازية لها قد سقطت في الرتابة والتكرار الممل والتسييس الرديء. وهو ما خلق فراغا، جاءت الحركة الإسلامية لتملأه في مطلع السبعينات. وقد نجحت في ذلك إلى حد ما، غير أن خطابها المسجدي سرعان ما سقط بدوره في التجاذبات السياسية، بحكم أن نشأتها اتسمت بطابع احتجاجي ديني وسياسي. وهو ما سرع في عملية المواجهة بينها وبين السلطة. تكررت المواجهة بين الطرفين في عهد بن علي، لتتحول بسرعة إلى منحى استئصالي، استعملت فيه السلطة، وبالأخص الأجهزة الأمنية كل الوسائل بما في ذلك التورط في حالة من الرهاب الديني وانتهاك حرية الاعتقاد. وهو ما أدى إلى حالة من التصحر، وزاد في تعميق الحاجة للمعرفة الدينية. ولهذا السبب لم يكن من باب الصدفة، أن يتوجه قطاع عريض من التونسيين مع النصف الثاني من التسعينيات نحو الفضائيات الدعوية، واتخاذها مصدرا رئيسيا للتزود بالمعلومات الفقهية وما يرتبط بها من مفاهيم. كما أقبل قسم من الشباب التونسي على المواقع الأكثر راديكالية بشبكة الإنترنت. وبالرغم من تحذيرنا من تداعيات هذا التحول في مصادر الثقافة الإسلامية، إلا أن السلطة السابقة كانت مشغولة بالنهب، ومسكونة بالهواجس الأمنية. وحتى عندما اقتنعت بضرورة التصدي لذلك عن طريق إطلاق إذاعة الزيتونة، جاء قرارها متأخرا كثيرا، إضافة إلى محتواها الضعيف والسطحي، وخطابها الذي لم يكن قادرا على كسب ثقة الشباب. بعد الثورة، تداعت مختلف الحصون، وعادت حركة النهضة بقوة لتتصدر المشهد السياسي. وبقدر ما جاء خطابها واضحا في مجال تبني الشعارات المتعلقة بالديمقراطية السياسية، استمرت مواقفها من المسائل الدينية غير محددة أو ملتبسة أحيانا. كما أن الكثيرين من أنصارها لم يقرأوا حتى ما كتبه رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنوشي. وبالرغم من الهجوم الذي قام به السلفيون وغيرهم على المئات من المساجد، لم تتصدى حركة النهضة لمثل هذا المسعى الذي يستهدف السيطرة على الفضاء المركزي للحياة الدينية في البلاد. يقول قادة الحركة بأنهم تجنبوا الخطابة في المساجد حتى لا يتهمون بتسييسها. وهم محقون في ذلك إلى حد كبير. كما أن الحملة القوية التي تعرض لها الشيخ عبد الفتاح مورو بسبب البرنامج الديني الذي قام بتأثيثه طيلة شهر رمضان، زادت من إرباك عموم الإسلاميين من حيث علاقتهم بالمساجد. وبطبيعة الحال لن يكون الحل في دفع حركة النهضة أو طرف سياسي آخر إلى تأطير المساجد وتحويلها إلى مراكز للحشد السياسي ضد السلفيين أو غيرهم. فذلك من شأنه أن يؤدي إلى ضرر من نوع آخر. المطلوب حاليا العمل على ثلاثة مستويات: أولها: قيام وزارة الشؤون الدينية باستعادة ضبط المساجد، وأن تكون هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن تعين الأئمة وخطباء الجمعة، وأن تعيد ترتيب الأوضاع داخلها، مدعومة في ذلك بسلطة القانون التي تملكها الحكومة المنتخبة. ثانيا: التفكير جديا في وضع خطة شاملة لإعادة النظر في مضامين الخطاب الديني، وأن يكون من ضمن مكونات هذه الخطة إنشاء مركز للتدريب على الخطابة والتوجيه، وأن توضع له مناهج حديثة إلى جانب مضامين مدروسة تعمق الأبعاد الروحية والأخلاقية للإسلام، وترمي إلى تأصيل المعاني والمقاصد الإسلامية ضمن السياق التونسي، معتمد في ذلك على تراث الحركة الإصلاحية التونسية، وأن تقدم الحجة القوية على عدم وجود تعارض بين الإسلام والديمقراطية وقيم حقوق الإنسان. ثالثا: تنشيط الحياة الفكرية، بانخراط جميع الأطراف ذات المعرفة بالفكر الإسلامي، خاصة تلك التي تملك نفسا اجتهادا وتجديديا، وذلك من خلال تنظيم الندوات والدورات التدريبية، وتنشيط حركة النشر من خلال التشجيع على التأليف في مثل هذه المسائل. والتركيز بالخصوص على المدارس والمناهج، ومساعدة الأساتذة على حسن إدارة الحوار مع طلبتهم بعيدا عن كل أشكال التوتر أو الاستفزاز. على الجميع أن يعوا بأن الإسلام جزء حيوي ومؤثر رئيسي في ثقافة التونسيين. وأن نجاح الثورة والانتقال الديمقراطي مرهونان إلى جانب الشروط السياسية والاقتصادية بقدرة النخب على تفويت الفرصة أمام الذين يحاولون تبسيط الخطاب الديني وتلغيمه، أو تحويله إلى أداة لتهديد السلم الأهلي. إن الانتكاسة التي يشهدها الخطاب الإسلامي في تونس ستكون لها تداعيات خطيرة، وإذا لم تدرك حركة النهضة ذلك -حسبما توحي به تصريحات بعض قادتها، وتشترك مع بقية الأطراف المعنية بهذا الملف المتفجر-، فإنها ستضع مصيرها على المحك. لهذا أصبح لزاما أن يتم الإسراع في اتخاذ الوسائل الناجعة والعميقة من أجل تصحيح الوعي، وإعادة ربط الثقافة الدينية بالواقع وبتحديات المرحلة في أجواء حوارية، بعيدة عن التشنج ومنطق الإقصاء، ولكنها صريحة وجدية ومدعومة بتطبيق القانون وحماية الحريات الفردية والجماعية.