ليست السلفية تياراً أو حزباً أو تنظيماً يمكن وصفه بأنه ذو أهداف ومنطلقات محددة؛ لكنه بلا شك ينطلق من أرضية مشتركة في عمومها، وهو ما يمكن أن نحدده من خلال مفهوم مصطلح السلفية (بأنها اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم هم الذين سلفونا وتقدموا علينا). وعلى هذا نرى أن السلفية ذات منطلقات محددة تشترك في رؤيتها الكثير من التيارات والأحزاب والأفراد وإن اختلفت في نتائجها، فبعد الثورات العربية وفي مناطق متعددة ومنها مصر تحديداً ظهر ما يسمى بالفزاعة السلفية أو المارد السلفي، فما هي حقيقة السلفية في مصر تحديداً؟ وهل بالفعل هي طارئ على الشارع وتريد اختطاف الثورة كما يصوره البعض؟! بالعودة إلى تاريخ السلفية في مصر نجد أن التيارات السلفية في مصر تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول؛ سلفية تعمل بشكل رسمي ومصرح به ولديها جمعيات دعوية واجتماعية وخيرية منذ فترة طويلة وهي: الجمعية الشرعية والتي يتجاوز عمرها 99 سنة والتي أسسها الشيخ محمود خطاب السبكي عام 1912 تحت اسم "الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية"، وكان دافعه في ذلك رؤيته للواقع المصري المضطرب في ظل الاستعمار الذي نتج عنه تنحية الشريعة الإسلامية عن الحياة العامة، وتغيير مسار التعليم ومناهجه، وبدايات حملة التغريب التي ظهرت في تلك الفترة، وما صاحبها من دعوات تقلل من قيمة المرأة ومكانة الشريعة الإسلامية في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وظهور وتفشي البدع والخرافات. وتنتشر فروع الجمعية في جميع أنحاء جمهورية مصر، وتعتبر من أقوى وأبرز المنظمات العاملة في العمل الخيري، ليس فقط لأنها تمتلك أكثر من 350 فرعاً في مختلف أنحاء البلاد، بل لامتلاكها بيئة خدمية اجتماعية واقتصادية تغطي أنحاء البلاد، ورئيسها حالياً هو الدكتور محمد المختار محمد المهدي، وهو من علماء الأزهر. بالإضافة إلى جماعة أنصار السنة المحمدية التي تأسست عام 1926 ، وتأسست جماعة أنصار السنة المحمدية في مدينة القاهرة على يد الشيخ محمد حامد الفقي الذي نشأ في بيئة أزهرية محافظة، وكان الفقي من علماء الأزهر، وما إن حصل الفقي على شهادة العالمية من الأزهر (الدكتوراه) حتى انطلق ومجموعة التفت حوله إلى الدعوة إلى التوحيد الخالص والدفاع عن السنة في المساجد والمقاهي والمنتديات، فذاع صيته وكثر أنصاره. بعد وفاة الشيخ الفقي تعاقب على جماعة أنصار السنة عدد من الرؤساء حتى عام 1969، وهو العام الذي أدمجت فيه الحكومة المصرية جماعة أنصار السنة في الجمعية الشرعية، واستمرت الجماعة على هذا الحال حتى جاء عام 1972، فأعيد إشهار الجماعة مرة أخرى على يد الشيخ رشاد الشافعي (المؤسس الثاني)، مستفيدة من أجواء حالة الانفتاح السياسي التي سمح بها الرئيس السادات، وينتشر أعضاء الجمعية في كل محافظات مصر، ولها في مصر قرابة مائة فرع وألف مسجد. إذاً فالسلفية في مصر ليست كما يصورها البعض على أنها جديدة أو حديثة بسبب غزو الفضائيات حديثاً! بالإضافة إلى وجود سلفيات أخرى متشددة ومتطرفة، إما من الناحية الحركية واستخدام العنف أو من الناحية الفكرية والإقصاء، فالجماعة الإسلامية في مصر لاشك أنها حركة سلفية متشددة قبل إعلان مراجعاتها التي تدور حولها الكثير من التساؤلات هذه الأيام؛ بالإضافة إلى سلفيات مغمورة متشددة في فكرها مثل سلفية القوصي وغيره. يبقى أن هناك سلفيات أخرى لم تنخرط في العمل المنظم سابقاً مثل سلفية الإسكندرية، والسلفيون الحركيون المستقلون الناشطون في القاهرة مثل الشيخ محمد حسان والشيخ فوزي السعيد والشيخ نشأت إبراهيم والشيخ أبي اسحاق الجويني، وغيرهم ممن لا يزالون ناشطين وزاد نشاطهم بعد الثورة، وسوف أتحدث عن سبب هذه الضجة عن نشاط السلفية. الجميع يعلم أن السلفية في مصر كانت كغيرها من الحركات الإسلامية التي تنفست الكثير من الحرية بعد الثورة فظهر صوتها عالياً ومسموعاً، بالإضافة إلى أن السلفية تعاني من اضطراب في الموقف من الثورة وما بعد الثورة، وهي إشكاليات بالنسبة للتيار السلفي الذي يعتمد بشكل كبير على النص (الدليل) الذي يحتاج إلى إعادة قراءة وتكييف في ظل المتغيرات الزمانية، فالثورة التي ظهرت في مصر ليست ثورة مسلحة، وخروجاً يمكن إلحاقة بالمسائل المشابهة في التراث الإسلامي؛ لكنها حدث جديد يضاف إلى مفهوم الاحتجاج على السلطان والوالي الذي لم يكن معروفاً في السابق! بالإضافة إلى أن السلفية كان لديها موقف مسبق من الانتخابات والديمقراطية وصناديق الاقتراع وهو التحريم؛ واليوم تقف هذه الجماعات على مسافة قصيرة من هذه الصناديق، ويحتم عليها الواقع الجديد إعادة القراءة الفقهية لهذه المسألة، وهو ما تحاول اليوم سلفية الإسكندرية بالإضافة إلى بعض السلفيين المستقلين فعله. يمكن أن نستنتج من خلال هذه السياقات، أن التيار السلفي في العالم العربي بشكل عام يمر بمرحلة ليست بعيدة عما تمر به التيارات الأخرى من إعادة قراءة للأولويات والواقع، من خلال الرؤية الفقهية العقدية التي تميز بها هذا التيار، لكن يبقى السؤال الكبير هو: هل ستنجح هذه السلفيات في خلق رؤية جديدة على الواقع المحلي تلتزم فيه بثوابتها مع الأخذ بالتغيرات الزمانية والبحث عن إجابة جديدة عن الموقف من الحريات والآخر والديمقراطية؟ وأتصور أنه بالإمكان أن تفاجئنا التيارات السلفية بأطروحات تتجاوز الحركات الإسلامية الأخرى في وضوحها، أم أننا سوف نرى تحولات من اتباع وقيادات هذا التيار إلى أحزاب أخرى إسلامية وقومية للخروج من البحث والاستقصاء؟