ما من نشاز فكري وانحطاط في الأخلاق إلا وكان سببه العيش في دين الله على طرفي نقيض.. إما إفراط وإما تفريط.. وإن عبادة الله على الأطراف ما هي إلا امتطاء صهوة الشيطان ومجاورته في ساحة الضلال.. وقبل أن أخوض غمار هذا المقال فإني أحب أن أستهله بنص كريم من كتاب الله يتبين لنا من خلاله أن الله تعالى جعل منهج الوسطية هو طريق عباده الذي يزلفهم إلى الرشاد قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ…) إذاً لن تكون هذه الأمة شاهدة على الأمم إلا إذا اقتفت آثار الوسطية.. وقد ورد في الأثر أنه قيل «ما من أمر إلا وللشيطان فيه مدخلان، مدخل تفريط، ومدخل إفراط» إنه ما من ذات إنسانية قد أفرطت في جانب إلا وحتماً سوف يأتي يوم تفرط فيه.. وهناك قانون كوني يقول: «إنه لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة ومعاكسة له في الاتجاه» فالانتقال من طرف إلى طرف أمر حتمي، وإن الأسباب التي طوحت بناشئة الأمة عن سلوك المنهج القويم هو العيش على الأطراف والبعد عن ساحة الوسطية. إنه من عاش على أحد الأطراف فلن يروق له يوماً إلا العيش على الطرف النقيض! ونحن اليوم نشاهد ذلك جلياً فهذا شاب يفرط في دين الله ومن ثم يأكله ضميره، ومن ثم يريد الخلاص من تأنيب الضمير، وإذا بنا نراه ينتقل إلى مرحلة الإفراط في عبادة الله والعكس صحيح! إن ناشئة الأمة لن تعيش بهدوء نفسي وأخلاقي وصحة في المسلك حتى يقوم المصلحون على إرشاد هؤلاء الناشئة على منهج الوسطية، وهذه المهمة مسؤول عنها المربون والمعلمون وخطباء الجمعة ووسائل الإعلام المختلفة.. إنه ما من مشكلة فكرية أطلت علينا برأسها إلا وكان سببها التطرف في دين الله.. وكل النصوص الشرعية تسلك بالذات الإنسانية إلى الجنوح للعيش على الوسطية، فيعبد الإنسان ربه مثلاً بين الرغبة والرهبة وخذوا هذا النص يقول الله تعالى عن بعض عباده: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) وفي ذات السياق كذلك يقول الله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) إنه من أسرج خيل التطرف في كل شيء فمعناه الهلاك المحتم، وأن التوازن في كل شيء لا سيما في عبادة الله مطلب ضروري للنجاة في كلا الدارين، ولله در الخليفة الرابع «علي بن أبي طالب كرم الله وجهه» حينما قال: (خير هذه الأمة النمط الوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي) إني لأعجب من شاب أراه يعيث فساداً في الشارع المادي وإذا بي يوماً أراه يعيث في الشارع المعنوي متنقلاً من طرف إلى طرف.. إن الناشئة لن تعيش في نسق سليم إلا إذا كانت تعيش على منهج الوسطية فترضع تعاليمها مع حليب أمهاتهم ويرون الوسطية ماثلة لهم في المناهج الدراسية وعلى المنابر والندوات والمحاضرات وأن لا يروا إلا قدوات معتدلة المنهج، ومعتدل المنهج هو ذلك الإنسان الذي سلك منهج الوسطية منذ نعومة أظفاره ولا يكون منهجه من وحي سلوك التجربتين الإفراط والتفريط.. إن الناشئة أحياناً تساق لهم نماذج خاضت التجربتين ومسألة تأنيب الضمير ظاهرة عليهم، إن مثل هذه النماذج ليست هي القدوة وإنما القدوة هم سلف هذه الأمة التي يمثلها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم الذين امتدحهم الله بقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) إن من تلك الأسباب التي جعلت ناشئتنا تجدف في مسلكها ومن ثم تقطف الأمة من سلوكهم ثماراً فجةً ما هو إلا بسبب شاب لم تصل إليه مبادئ هذا الدين وقيمه أو العكس، فتقطف ثماراً فجة من شاب أُحرقت عواطفه في الغلو في الدين فجعله يستوحش، ومن ثم يرى نفسه دائماً أنه مقصر وكذلك غيره مقصرون! وبعد ذلك يُفرز لنا هذا الشاب مزاجاً لاذعاً يأتي على الأخضر واليابس!! وهذا مع الأسف الشديد هو حال كثير من ناشئة الأمة الإسلامية.