الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، لتوسطها بين صلاتي الليل والنهار، والوسطى هي الفضلى.. وفي الوسط الذي هو الأفضل، جاء وصف الله تعالى لأمة المسلمين المؤمنين «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً».. أي أمة عدولاً وخياراً. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وسطوا الإمام وسددوا الخلل). وسط الرجل وسَاطة صار شريفاً وحسيباً، فهو وسيط فيهم، أي أوسطهم نسباً، وأرفعهم مجداً. إن الوسطية في أدق معانيها هي القمة - أليست الشمس هي أزهى وأقوى نوراً وحرارة في وسط النهار، أليس القمر أكمل نوراً واستدارة في وسط الشهر. وعلينا ألاّ نتوهم أن الوسط كما هو شائع عند كثير من الناس أنه (بين بين).. أي بين الردئ والجيد.. وقد يكون هذا المعنى صفة لبعض الأشياء لكن المعنى الأصلي والحقيقي للوسطية هو الجوهر والقمة. ❊ واسطة القلادة الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها، قال الشاعر لما توفى ابن له وسط أولاده: توخَّى حمام الموت أوسط صبيتي فلله كيف اختار واسطة العقد الوسطية في كل أمر هي الخير والعدل.. هي الأجود، وهي الأكثر عملية، وأوجب قبولاً. نعم إننا أمة وسط، بمعنى أننا أعظم الأمم، أشرف الأمم.. بما قدره الله لنا من إتباع أعظم الأديان، وأشرف الرسالات.. ونحن أعظم الأمم أيضاً بإتباعنا كل ما جاء به الإسلام دون تهاون أو تفريط.. فالتهاون في أمور الدين والتفريط في العبادات يبعد الإنسان عن كونه وسطاً عظيماً شريفاً. ويقابل ذلك فهم آخر خاطئ هو الغلو والتشدد الممقوت.. بمفهوم خاطئ أن هذا هو الدين بحذافيره، ودقة ما جاء به، وأن المغالاة في الدين هي زيادة في التمسك به. ظهرت منذ بدء الإسلام بعض دعوات التشدد والمغالاة في الدين. لكن الإسلام نهى عن ذلك.. فقد قال - صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم). قال - صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يُسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه). فالإسلام منذ جاء وهو دين الخير واليسر.. لكن ليس دين التهاون الذي قد تفهم به الوسطية اليوم.. فليست الوسطية بمعنى التيسير غير المشروع في الدين والحياة.. فالقيم واضحة، وحدودها ثابتة، لا إفراط ولا تفريط، ولا تنطع ولا تشديد، الوسطية هي الاعتدال الكامل في حدود كل شيء، والمغالاة هي التزيد المرفوض في أداء كل شيء. قال تعالى: «يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق» ظهرت في العصور الإسلامية الأولى بدعة الخوارج والمعتزلة، وهم من الغلاة في الدين. وقد ظهرت في عصرنا آثار ذلك بين بعض الشباب، حتى أن بعضهم كفّر المسلمين، ظناً منه أنهم خرجوا عن حدود الشرع، وأنهم ارتكبوا من المعاصي ما يخرجهم من حوزة الإسلام.. كما انتشرت الدعوات المتنطعة، والمجالس المتشددة، التي أوغرت صدور بعض الشباب؛ فأشاعوا الفساد في بلادهم، ونشروا الشر بين ذويهم. أما الاعتدال لغة: العدل ضد الجور، وما قام في النفس أنه مستقيم، و(عدل الحكم تعديلاً: أقامه، و(عدل) فلاناً: زكاه، و(عدل) الميزان (سوَّاه)، والاعتدال توسط حال بين حالين في كم أو كيف، وكل ما تناسب فقد اعتدل، وكل ما أقمته فقد عدلته وعدلته، والعدول: هم الخيار. وذكر في القاموس المحيط: من معاني العدل والاعتدال: الحكم بالعدل، والاستقامة، والتقويم، والتسوية، والمماثلة، والموازنة، والتزكية، والمساواة، والإنصاف، والتوسط. أما اصطلاحاً فالاعتدال: هو التزام المنهج العدل الأقوم، والحق الذي هو وسط بين الغلو والتنطع، وبين التفريط والتقصير، فالاعتدال والاستقامة وسط بين طرفين هما: الإفراط والتفريط. والاعتدال هو: الاستقامة والتزكية، والتوسط والخيرية. فالاعتدال يرادف الوسطية التي ميز الله بها هذه الأمة، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاَّ لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم). وقد فسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا بقوله: (والوسط: العدل). وبلا مغالاة يتحقق في الأمة الإسلامية، (خير أمة أخرجت للناس) بعد أن وصفها الله تعالى بأنها (أمة وسطاً شهداء على الناس). خير: هي اسم تفضيل بمعنى (أخْير) والأخْير هو الأفضل عما سواه من كل المفضل عليه. ولا يتفق الوصف بأخير أن نكون دون القمة العليا، أو الوسطية الجوهرية. إذ كيف يكون الشاهد دون المشهد عليه (شهداء على الناس) فالله سبحانه وتعالى جعلنا شهداء على كل العالمين، شهادة مقبولة تدل على أنه لا طعن فيها.. كما هو الحال في القضاء العام. كما شرع الإسلام إذْ لا تقبل شهادة الذي ثبت عليه كذب أو تزوير في شهادة قبل تلك. من هنا نجد أن الوسطية لا تعرف أبداً معنى التفريط في شيء من القيم والثوابت، وأصول التشريع، وأسس العبادات، كما لا تعرف التنطع والمغالاة المرفوضة الخارجة عما أمر الله تعالى به. وعليه.. فالوسطية، والاعتدال معنيان مترادفان في المفهوم اللغوي، والشرعي والاصطلاحي، فهما: العدل، والاستقامة والخيرية، والاعتدال، والقصد، والفضل والجودة. فالاعتدال والوسطية منهج الحق ومنهج الأنبياء وأتباعهم، ويتمثل ذلك بالإسلام الذي أتم الله به الأديان وأكملها، بما حمله رسول الهدى محمد - صلى الله عليه وسلم - للبشرية جمعاء. إن التهاون الذي يفسر به بعض الناس (الوسطية) قد يؤدي إلى التهاون في حدود الله، ويشيع الضعف الديني والانحلال الخلقي.. لأن من يفهمون الوسطية هذا الفهم غير الملزم بالحدود كلها سيتنازلون عن بعضها. وما أسرع انتشار الضعف.. وما أكثر ما يتمسك به بعض ذوي الهمم الفاترة مما يشاع خطأ عن الوسطية. إن الحدود للأمور واضحة المعالم في الإسلام - قرآناً وسنة نبوية، وفي الممارسات الإنسانية القائمة على الثوابت.. لذا يبقى الوسط هو الأجمل والأمثل والحق.. كلما تأملت الوسطية عملاً، وقولاً وجدتها الخير كله.. فالصامت دائماً والمهذار كلاهما ثقيل المحضر.. لكن المرء الوسط الذي يتكلم حين يلزم الكلام، ويهش حين يكون لذلك لزام هو المقبول عن الجميع.. ثم إن المتقوقعين على أنفسهم، والمطلقين لعنان أنفسهم لقاء بالآخرين في كل وقت كلاهما غير مرغوب فيه. لكن الوسط بين هذا وذاك هو المقبول عند الناس الأثير باحترامهم لتتضح الصورة أكثر، وتتبين الوسطية ومزاياها أضرب مثلاً ببعض من أعرفهم فبعضهم لا يخلو وقته من لقاءات وارتباطات اجتماعية.. ففي كل نهاره وأمسياته لقاءات ودعوات.. إذ هو إما داع لها أو مدعو إليها.. والنوع الآخر من معارفي لا يخرج من بيته، ولا يلتقي بأحد طوال يومه وليله.. وهو وحده عيشاً، وفكراً، ولقاءً. وكلا الرجلين غير مقبول منه ذلك،والطريف في هذا الأمر أن زوجة كل منهما تندب حظها..فالأول تريد زوجته أن تراه،ويتمنى أولاده اللقاء به،والاجتماع معهم أكلاً وحديثاً لأنه مشغول عنهم ليل نهار مع الآخرين. والثاني تتمنى زوجته أن يخرج من المنزل لو ساعة في اليوم، وأن يفتح باب منزله مرة بعد عودته من العمل.. فهما متواجهان معاً طوال الوقت، وناهيك عما يحدث في هذا اللقاء المستمر بينهما. ألَمْ أقل إن الوسطية هي الاعتدال، وهي الأفضل.. فتوسطوا يا عباد الله في كل شيء حتى في الطعام والشراب. فيكون الثلث للطعام، والثلث للشراب، والثلث للنفس كما علمنا رسول الهدى. ثم إن ما يعانيه عالمنا كله اليوم من شرور وعداوات.. بل من حروب بين بعض الأمم وما تشنه بعض الدول العدوانية على أخرى مسالمة. وإن ما يعكر صفو حياة المجتمعات ويقلق بال الإنسان غير خروج الأمور عن وسطيتها. فالدول المغرورة بقوتها تنسى أن هناك عدلاً يقوم عليه السلام، والأمان.. وأصحاب الأفكار المتطرفة المشتطة يثيرون القلق في مجتمعاتهم ناسين أن الفكر المعتدل والرأي الصواب هو أفضل الأفكار والآراء، أي الوسط، ليتنا جميعاً نعرف المعنى الحقيقي العملي للتوسط والاعتدال فكراً، وسياسة ، وعلاقة، وسلوكاً سياسياً، واجتماعياً. لو تم ذلك لعاشت الدنيا في صفاء وسلام، وأمن وهناء. وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمِدَنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد. (يتبع)