بين أزقة عمَّان القديمة الملتوية القابضة بأكف بعضها بأطراف أصابع بعض، يرتحل بك الزمن ذهاباً وإياباً كقطعة قماشٍ تلهو بها الريح. دهور ولَّت منذ وطئت أول قدمٍ هذه الممرات، حضارات قامت، وأخرى زالت، وما فتئت الأرواح تتزاحم فوق جبال تلك المدينة. كانت تُسمَّى «ربة عمون»، ثم «فيلادلفيا»، ثم «عمَّان» وتلالها السبعة. إن سموتَ فجبل القلعة، ومعبدُ هرقل، وإن نزلت، فسبيل الحوريات، ومُدرجُ الرومان ذو الخمسة آلاف مُتفرج. تاريخٌ كأنه يُقطِّرُ الصمتَ المُخيفَ من بين الأحجار عمْداً كما لو أنه لم يكن ينضحُ بجبروتِ الرجال. أقعدتُ مقعدتي على مصطبةٍ رومانية في إحدى جهاتِ المدرج الروماني، اتخذت جلسةَ العربي، ووضعت كفَّيَّ على فخذيَّ، سما خيالي إلى ما قبل الميلاد بقرون، يا ربُّ مَن بنى ذا؟ بل مَن رسم هندسته؟ الزاوية تحاذيها زاوية على مقياس واحد، لا تتخطاها ولا تقصر عنها، حذو القذَّةِ بالقُذة. حذاقةُ ضبطٍ مع خصبِ خيال! يا أحجاراً سبقت التاريخ، كم من روحٍ أزهقها حاكمٌ يتلذذُ بسيلِ الدماءِ تحتَ دويِّ ضجيج شعبٍ يعيشُ بالإفناء، ويتنسمُ الإبادة؟ جاءتني طفلة صغيرة لم تبلغ العاشرة لتسألني مازحة: لماذا هنا تُمارس اليوغا؟ يا لهؤلاءِ القوم! مَن علَّم الطفلة بأشكال طقوس اليوغا؟ ونحن كبارنا قبل صغارنا لا يحلُّون حروف الكلمات! إنهم شعبٌ يقرأ. دعونا من جلد الذات، تركتُ الطفلة ومدرج الرومان، يقودُني أنفي إلى الورَّاقين والورق، إلى العتيق من المكتبات، عندهم لترتيب الكتب فن، ومن فنها أنها برائحة الموت، بطعم التراب، فالموت يعني الأصالة، والتراب يعني نقاء المحتوى، أتناول كتاباً من الرف، فكأنه يسبق إلى يدي قبل أن تصل يدي إليه، لقد ملَّ الرف، وآن له أن يتحسس الهواء، روحٌ بين طياتِ الكتاب لا حروف، سهرٌ وتعب وعناء تكبَّده شخصٌ ما ليكتب شيئاً يُحيي بهِ شخصاً ما، حبلٌ سري يربطني الآن بذلك المؤلف الذي أصبح جسده ذراتٍ من تراب، كان جسداً وولى، وروحاً ما برحت إلى اليوم ترفرف بيننا. يحدثك صاحب المكتبة، فإذ عمرها قد تجاوز جيلاً، أو جيلين، أو ثلاثة من آبائه، ولكنه بقيَّ يتأبطُ روحَ الإخلاص، وحب المعرفة، وطلبَ العلم مما أثبته مُحافظاً على إرثٍ مجيد، اختطه عبر متاهات الأيام. من هذه المكتبات تُشيدُ قضباناً على نوافذك لتحميك من سرطانات الواقع، ودروعاً تحول بينك وبين سهام التبعية، كم من الدرِّ مستكنٌ بداخل الصدفة ليفتضها مَن يفتضها، ويُحرمُ منها قليل الحظ، تأنسُ النفسُ عندهم، وكأنها من نبع الطفولة ترتوي، وعند أنوار النعائم تصطلي، المكتبات عامرة، والسوق رائجة، وقلَّما يُغَيَّبُ كتابٌ، أو يُغْفَلُ عن مؤلِفٍ، أمواجٌ تتلاطم بشتى الأفكار المؤيّدة منها والمُعارضَة، ومن ذلك أنك سامعٌ عند كل رفٍّ حواراً عن كتاب حرك الماء الراكد، وأجرى الدماء في أودية الدماغ الجافة، هناك لا يمكن لك أن تتذمر، فلديك أزقة مُلتفَّة، ورفوف متراصة، وحضارات تدعو للتفكُّر.