كانت محطتي الأولى لدراسة الطب مدينة (Mainz ماينتز) الألمانية على نهر الراين. أحد أبناء هذه المدينة هو مخترع الطباعة (يوهانيس قوتنبرج)، وما زالت ورشة عمله قائمة حتى اليوم كمتحف وطني بجوار كاتيدرائية ماينتز المشهورة عالمياً. تعرّفت في تلك المدينة على زميل دراسة ألماني اسمه (فيرنر)، سليل أسرة كاثوليكية كانت ثرية سلبتها الحرب العالمية الثانية كل ما تملك وسحبتها إلى خط الفقر، ثم بدأت تستعيد توازنها المعيشي مع المجهود الألماني الهائل لإعادة البناء. كنت أيامها لا أعرف عن العالم سوى ما حفظته في المدارس وسمعته من أقاصيص الكبار، ولم يكن ذلك ذي قيمة معرفية تذكر، لكن صديقي الألماني اعتقد خاطئاً أنّ طالب الطب المتحدر من صلب الجزيرة العربية يمثل كنزاً معرفياً عن الحضارات الشرقية. فيرنر نفسه كان يعرف الكثير عن الحضارات السامية وتفرعاتها العربية والأمهرية والعبرية، وعن الهند والصين وحضارات مصر وبابل وآشور. باختصار كان طالب طب عالي الثقافة لأنّ أهله ربّوه على حب المعرفة. ذات يوم أراد صديقي الألماني أن يريني أطلال آثار رومانية تمثل الحدود التي وصلت إليها الإمبراطورية الرومانية في عمق الأراضي الألمانية أيام كان أجداده متوحشين. عندما وصلنا هناك وجدت أنّ ما قصدناه مجرّد بقايا بناء حجري بني متواضع تتناثر حوله بعض الأحجار وعليها حروف وأرقام رومانية. لم يستطع فقري الثقافي إخفاء خيبة أملي فسألته: هل هذا هو كل شيء؟. رد بتعجُّب: يا صديقي أليس هذا مثيراً للتأمُّل.. هنا وصل الرومان في غزوهم لأجدادنا البرابرة، وهنا كان القائد الروماني يقيم في هذا المبنى، بينما كان أجدادي الألمان يسكنون في أعماق الغابات وعلى الأشجار شبه عراة. أليس هذا مثيرا ً جدا ً للتأمُّل ؟. ثم يا جاسر ألا ترى هذه الأرقام الرومانية على الأحجار، إنها لم تعد تستعمل، لقد أصبح العالم كله يستعمل اليوم أرقامكم العربية. سألته أي أرقام عربية، إنني لا أراها، فأجاب منزعجا ً: ماذا؟.. هذه الأرقام التي تراها عندنا في كل مكان في الكتب وعلى البيوت والسيارات، هذه هي الأرقام العربية. أخيراً استنتج الصديق الألماني أنّ طالب الطب العربي الواقف أمامه لم يكن قد عرف حينها أنّ الأرقام التي أصبح العالم كله يستعملها هي الأرقام العربية الحقيقية، وأنّ ما تعلّمه في المدارس السعودية أرقام هندية. مع مرور الأيام تعلّمت من زميلي الألماني أشياء كثيرة عن تعامل الألمان مع بعضهم في الأيام الأخيرة قبل خسارة الحرب والسنين القليلة التي تلتها، وعن تعاملهم مع المتاحف والمباني الوطنية العامة والآثار والمكتبات والجامعات ودور العبادة ومع ما تبقّى من وطنهم أثناء الحرب. حدثني فيرنر أنّ والده اضطر في شهور الحرب الأخيرة لنقل أثمن آلة بيانو عنده على ظهر حصان إلى الريف لمقايضته بشيء من الطعام لأُسرته الجائعة. عرض عليه أحد الفلاحين خمسة كيلوجرامات بطاطس مقابل البيانو، وعندما اعترض على الصفقة قال الفلاح: حسناً، إذاً عليك أن تطعم أولادك خشب البيانو. بعد الموافقة على الصفقة قال الفلاح لوالد فيرنر: اسمع يا هذا، ألاحظ أنّ هذا البيانو ثمين جداً، ولكن فقط أيام السِّلم، أما أيام الحرب فالبطاطس أكثر قيمة، لكن لا عليك، سأحتفظ بالبيانو عندي في المزرعة، وإذا تحسّنت الظروف سوف أبيعه عليك مجددا ً بالثمن الجديد بعد نهاية هذه الحرب اللعينة. لبضعة أيام سوف تأكل مع أولادك البطاطس وأنا سأترك أولادي يحاولون تعلُّم العزف على البيانو، لكنني سأحتفظ به لك حتى تعود. أذكر أيضاً أنني سألت صديقي الألماني لماذا تبدو الكاتيدرائية الكبرى في ماينتز والمتحف الوطني ومباني الجامعة القديمة على رونقها التاريخي وكأنّ الحرب لم تمسّها. أجابني بأنها بالفعل لم تمس لأنّ ثمة اتفاقاً ضمنياً غير مكتوب بين المتحاربين ألاّ يقصفوا عمداً الآثار والمتاحف والمباني التاريخية ودور العبادة والجامعات العريقة التي يعود تاريخ بعضها إلى قرابة ألف عام. كانوا عند انتصارهم على العدو يفرغون المتاحف والمكتبات والجامعات من محتوياتها الثمينة وينقلونها مغلفة ومختومة ومؤرشفة بكل عناية إلى العواصم المنتصرة، لكنهم لم يكونوا يتبادلون التدمير لأسس حضاراتهم المسيحية المشتركة. أتوقّف في هذه الحلقة عند هذا الحد لأكمل معكم الموضوع في الحلقة القادمة.