في طبيعة كل إنسان حالة من الروح الساكنة بداخله، تذهب في الأعماق فتسكنها حالات من الشعور بالضجيج، ولكن ذلك الضجيج يخفت بطبيعة التنشأة، حيث إن مجتمعاتنا قائمة على «العيب»، «كخ بابا»، «لا».. تلك الفلسفة التي جبل الإنسان في تربيته عليها، فأصبح خارج دائرة الفطرة ودخل في دوائر التكوين الأسري التي تحاول قدر المستطاع إيقاف مخيلته من النمو وإدخاله في متاهات الواقع الاجتماعي. ولعل التربية الحديثة، التي اعتمدتها الأوساط العلمية في دول العالم هو تغير أسلوب الكلمات والمفردات التي يمكن أن ينشأ الطفل عليها ولا توقف مخيلته ولا ترفض سلوكياته العفوية، وهذا ما يعيدنا إلى فلسفة الباب والمفتاح الذي تحدثت عنه في المقال السابق، وكان يبحث في أعماقه حول أسطورة التكوين البشري، والذهاب نحو المعرفة من خلال المفتاح، حيث إن الدلالة العلمية للمفتاح هي الوصول إلى أبواب مغلقة، وكما جرت العادة بأن هناك قيوداً اجتماعية تصنع الأبواب للطفل بمجرد أن يبدأ في خطواته الأولى، ولا تجعل الطفل يخضع للتجربة كأن «يحرق يده» ليعرف بأن النار حارقة، ومنعه من الحديث في حضور الجماعة وعليه الجلوس عند الأطراف وعدم التصرف بحرية لما تمليه عليه المخيلة التي هي بداخله. إذن نجد أننا نصنع دوائر نحيط أنفسنا بها، ونحاول ألا يتجاوزها الآخرون معنا، وذلك من باب الحذر وأننا نمنحه تجاربنا، وفي الحقيقة نحن نعطيه مفاتيح الفشل، لا النجاح بهذا القمع الذي نمارسه، على تلك الطفولة لنكتشف فيما بعد أن هذا الطفل حمل دوائر وإطارات لا تخصه فقد «أجبرنا الدوائر الطبيعية فيها على التحول إلى منظومات غير مستوية من أجل إسعاد الآخرين»، هكذا تقول كلاريسا بانكولا. وبالعودة لذاكرة رواية العطر للكاتب الألماني باتريك زوسكيند نعود لدخول بطل الرواية جان «باتيست جرونوي» للكهف للتوحد مع ذاته للوصول إلى الحس المنشود في الرائحة الإنسانية قبل أن يبدأ الرائحة من شعر المرأة، وبهذا التوحش الكامن بداخله يذهب لصناعة عطر لا يقاومه الجميع، في تلك الرواية نجد أن التوحش يصل إلى أعلى مراحله في القتل، وهذا ما يستعيد الأساطير حينما يستدرج الوحش الأنثى إلى القصر، ويمنحها دروب السعادة، ولكنه يحتفظ بشيء منها، مفتاح لا تستطيع استخدامه كما في أسطورة «بلوبيرد» صاحب اللحية الزرقاء. بين أسطورة «بلوبيرد» ورائعة «العطر»، نجد أن المكوَّن الأساسي هي الأنثى، حيث يذهب كل أبطال الحكاية إلى المرأة بروح مسكونة بالحب والشخصية المميزة، ليستدرجها خلف الباب، ويظهر بعد ذلك حالة التوحش، وفي عظام «بلوبيرد» وشعر النساء في «عطر»، نجد أن هناك حالة بحث عن الخلود، حيث إن عظام الأسطورة تظل باقية ورائحة باتيست تبحث عن الخلود، لعله حالة المكون الإنساني الباحث عن التميز في التكوين البشري فيصنع أساطيره وقصصه الخاصة ليذهب لأقصى حدود المخيلة البشرية في الدخول لغابة الروح.. ولحديث الأسطورة بقية.