كثيرة هي الأسماء الجميلة، التي بهرتنا، وحفرت في أذهاننا نقوش إبداعها. في ذاكرتنا نُحتت أسماء من الصعب علينا نسيانها، نفتقد وجودها، ونتألم لغيابها، رغم أن أصحاب تلك الأسماء بآثارهم الخالدة، وإبداعهم، الذي خُلِّد في ذاكرة ثقافتنا بعد رحيلهم، نجدهم حاضرين، نسهر على كلماتهم، ونتفكَّر في إبداعهم، ونتجادل حوله ونتحاور، وأيضاً نختصم! ومن المفارقات العجيبة أن في فضاءات إبداعنا في السرد، قصةً وروايةً، أسماءً لها وقع السحر، ووهج النجوم، وفي تجليات الذاكرة، وتداعياتها، ظلت فينا، وستظل مؤثرة، تنبض بروح إبداعية خلاقة لا تموت. عبدالعزيز المشري، اسم من الأسماء، التي تألقت في إضاءات السرد، وإشراقاته، رسم موته على الماء، و«جاس» في أحوال الديار بأريج الكادي، وظل يبحث لزهوره عن آنية، تليق بها، وكأن ذلك «السروي»، الذي أتعبته أسفاره، بقي فينا صوت إبداعه، يستفزنا لقراءة عالمه، والاستمتاع بتجليات خياله. الكاتب المشري، رحمه الله، كتب الرواية عن عالم القرية في الجنوب، بروح العالم الأنثربولوجي، وليس بتجليات عاشق الحلم والأساطير. صاغ الواقع، وعمد إلى إعادة تركيبه، وفق رؤية فكرية وفنية خاصة، أما لماذا؟ «فلأنه عرف أن أهل القرى لايزالون الوحيدين، الذين يُمعنون الرؤية والتبصُّر والتنبؤ، بالحكمة والفطرة، كما هي سيرة الشعوب القديمة…». كم كان ألمي يتعاظم في ليلة تكريمه في نادي جدة الأدبي، قبل وفاته، رحمه الله، بعام، حين رأيت دمعة تلألأت في عينيه، وقد رأى حشداً من الذين أحبوه وعشقوا إبداعه، وتألمت أكثر حين قال بوده، وتمنى في تلك اللحظة لو أن قواه ساعدته على الوقوف بصلابة، ليحيي الذين كرَّموه، وبثوه حبهم، وجاءوا ليحتفوا بإبداعه، فقلت مستنطقاً ألمي بما يعاني، وأنا المبهور به مبدعاً، يحترق بحروف إبداعه، ويكتب بمداد المعاناة والألم، «حين نذكر المشري، ومشروعه السردي، وكتاباته، نتبين صوته، وهو يتغلغل في داخلنا، نستمطر الكلمات من الذاكرة، فنجده ذلك القلم المبدع، الذي تأخذ جذوره من الألم والحلم، فيعلو سامقاً بين الأسماء الفارعة في الطول والنحول. حين سألته عن أحلامه وطموحاته، قال معبِّراً بكل ما في مخزون ذاكرته، والألم يعتصره: ألم ترَ إلى الذين يزاحمون عباراتهم وكتابات إبداعهم، لتكريس البطل الفرد المهزوم، وهو البطل الذي لم يهزمه مرضه، ولم تقهقره، أو تهزمه أحزانه وآلامه، أرأيت أولئك كيف جعلوا من الأمل الجميل إلى الحياة مقبرة لكل المباهج، وموئدة لكل الأشياء الجميلة بالمواجع، لأن الكتابة التي تخلو من تجسيد انهزامية البطل وترديه، هي كتابة لا تحاكي هم الإنسان وأحزانه». جمع المشري في إبداعه وبوحه بين «السيف»، و»السنبلة»، ورسم لنفسه النهاية التي يكتبها الروائي في خاتمة نصه. لم يصنع الألم إبداع المشري، ولكنه صنع بنفسه من الأمل حلماً، انتصر به على آلامه. رحل المشري حقاً، ولكنه حفر اسمه وإبداعه في ذاكرتنا، بحيث يصعب علينا نسيانه، أو تجاهله.