شاهدتُ قبل أيام صورة لمقهى في كندا وقد وضع لوحة أمام المدخل يُعلم فيها زواره بأنه لا يقدم خدمة الاتصال بالإنترنت، ثم ألحق الإعلان بالجملة التالية: «تحدث مع صديقك، اتصل بأمك، تظاهر بأنه العام 1993.. عِشْ حياتك». وقبل سنوات ظهر مصطلح (FOMO ويعني Fear of Missing Out الخوف من أن يفوتك شيء) حيث خلقت «السوشيال ميديا» نوعاً من الرهاب الاجتماعي الذي يدفعنا للبقاء على اتصال دائم – وليس على تواصل – منذ لحظة استيقاظنا من النوم وتلمسنا للهاتف بجانب السرير صباحاً، إلى لحظة سقوطه من أيدينا على الوسادة ليلاً. نخاف من أن يفوتنا فيديو المشهور الفلاني في سناب شات، أو تغريدات الكاتب الفلاني في تويتر، أو صور الشهيرة الفلانية في إنستجرام. وأكثر ما يخشاه أحدنا في اللقاءات العائلية وتجمع الأصدقاء أن يقول أحدهم: «هل شاهدتم فيديو فلان بالأمس وهو يفعل كذا وكذا» فيضحك الجميع ويعلقون على الفيديو، فترتفع حينها ضربات قلبك، وتتعرق يداك وأنت تهرع بفتح هاتفك خلسة، وربما تهرب إلى الحمام وتشاهد الفيديو على عجالة لتعود وقد هدأت نفسك، وتشارك في الضحك والتعليق أنت أيضاً! كل من يملك حساباً في السوشيال ميديا يعاني اليوم من «فومو»، ويقول النفسانيون إن مشكلة فومو أنه يجعلنا لا نشعر بقيمتنا في الحياة إلا من خلال الآخرين. بمعنى، عندما نرى فيديو شخص وقد اشترى سيارة فارهة، أو آخر يعرض صور عضلاته وتقاسيم جسمه، وأُخرى تملأ الفضاء الافتراضي بصور وفيدوهات حضورها لحفل خيالي في جزيرة ساحرة، فإن كل ذلك يشعرنا بالإحباط لأننا نعلم جيداً بأننا لن نكون مكانهم. ومع مرور الوقت يتحول ذلك الإحباط إلى إدمان، فلا نشعر بالراحة حتى نشاهد تفاصيل حياتهم الفارهة والسعيدة وأجسادهم القوية ورحلات صيدهم ومغامراتهم، ونشاهد موضة لبسهم وساعاتهم وأحذيتهم. فننفصل عن واقعنا، نترك أحلامنا، ننسى تطوير أنفسنا ونعيش حياة غيرنا. من المآسي الأخرى التي سببها فومو في حياتنا هي الحزن؛ فلأننا نعرف تفاصيل الآخرين ونتتبع حياتهم كل ساعة فإن أي مصيبة يمرون بها، من موت قريب أو خسارة صفقة أو تعرضهم لحادث، يشعرنا وكأننا نحن المصابون بتلك المآسي. حتى ونحن لا نعرفهم إلا من خلال السوشيال ميديا، إلا أننا نتفاعل مع مشكلاتهم وكأنها مشكلاتنا، فتكون النتيجة أن نشعر بالضيق وربما نصاب باكتئاب يضطرنا للجوء إلى علاجات طبية للتخلص منه. ما الحل إذن؟ في بدايات القرن العشرين وُلِدَ الفيزيائي الأمريكي (ريتشارد فاينمان) الذي عاش حياة مملوءة بالكشوفات العلمية والإنجازات العملية، خاصة في فيزياء الكم؛ حتى فاز على إثر أعماله بجائزة نوبل عام 1965. كان فاينمان عبقرياً لدرجة تثير الإعجاب، فساهم في اختراع القنبلة النووية من خلال مشروع مانهاتن، وكان من الذين تنبأوا ومهدوا لاختراع تقنية النانو. كان لفاينمان فومو خاص به، حيث كان يعاني، كباقي العلماء، من الخوف من أن يفوته شيء في مجاله، فاشترى مفكّرة وكتب عليها «مُفكّرة الأشياء التي لا أعرفها» وأخذ يدوّن فيها كل شيء يمر عليه ولا يعرفه. وما إن يسجل مجموعة من الأشياء حتى «يختفي عن الرادار» كما قال كاتب سيرة حياته. كان يفكك المعادلات الرياضية ويعيد تركيبها مرة تلو الأخرى ولا يكتفي بفهمها، بل يتحدى نفسها ليطورها ويبسطها. وبعد أن تنتهي خلوته يخرج إلى الناس، يعود للتدريس في الجامعة ولزيارة الأصدقاء وحضور الحفلات. يقول كاتب سيرته إن التعلم شيء صعب على الجميع، على الطالب والأستاذ سواءً، ولذلك، كان فاينمان كلما تعلم شيئاً صغيراً يقوم بتدوينه، ومع مرور الوقت تتراكم المعلومات بشكل بسيط ومنظم وتتحول عملية التعلم إلي ممارسة بسيطة ومسلية. عندما مات فانيمان ترك مفكّرة غاية في الروعة، استطاع بها أن يحول فومو إلى أداة للتعلم والكشوفات العلمية. لكن أكثر ما أعجبني في سيرته هو أنه كان يختلي بكتبه ونفسه عندما يريد فهم شيء ما دون أن يهتم بالالتزامات الاجتماعية أو الأخبار أو أي شيء آخر، مما مكنه من التركيز والبحث والتفكر في الأشياء التي لها قيمة. انتشر مؤخراً بين مشاهير السوشيال ميديا انقطاعهم لفترة من الوقت عن كل وسائل التواصل ليعيدوا «ترتيب أوراقهم». وهذا أمر جيد لكنني لستُ مع مبدأ إما الانقطاع التام أو الانخراط العام! بل مع مبدأ الحرية والشجاعة في الاختيار، أي، أن تكون لدي القدرة على أن أختار أن أدخل السوشيال ميديا اليوم أم لا. أن تكون لدي الشجاعة لعدم معرفة المشهور ذاك، وعدم الإحساس بالعزلة الاجتماعية لأنني لم أتابع وسم كذا أو حملة كذا. ليس مهماً أن نعرف عن كل ما يدور حولنا، والأهم أن نعرف عن الأشياء التي تُسعدنا ونتعلم الأشياء التي تلهمنا. أن نتعلم كيف نتساءل، كيف نبحث، كيف نفكر، كيف نتعلم ونستمتع. يقول فاينمان: «تعلمتُ في مرحلة مبكرة من حياتي الفرق بين معرفة اسم شيء ما وبين معرفة شيء ما».