عصرنا هو عصر الانفتاح، فلا أسلوب المنع، ولا الحظر يُجدي، ولا السكوت، ولا الصمت ينفع، بل أحاورك وتحاورني، فأقتنع. أحداث اليوم تتميز بالمتناقضات والاختلافات بين الأفكار والآراء، ولم يعد حلاً تسفيه الآخرين، أو تفنيد آرائهم، لذلك لنتجنَّب مقولة: إن لم تكن معي فأنت ضدي. بل يجب أن يكون هناك إنصاتٌ، واستماعٌ، واستيعابٌ لفكر الطرف الآخر. الاختلاف لا يعني الخلاف، والحوار يعني أن نتعلم كيف نطرح أفكارنا مهما كان الاختلاف. الحوار هو تراجع الكلام، والتحاور هو التجاوب في الحوار، والمحاورة بشكل عام هي مراجعة المنطق، والكلام في المخاطبة، كما جاء في تفسير ابن منظور في كتاب لسان العرب. وللحوار أهميته الفعلية داخل الأسرة والمجتمع، وفي تطور الشعوب، ولا نبالغ في ذلك، فالشعوب تحتاج إلى الحوار للتعايش بسلام، وفن الحوار له أسس وأهداف يقوم عليها، فالحوار في ديننا له قدر رفيع، ودلالة على عمق الفكر الحضاري والراقي للأمة، حيث نستلهم أهميته في قوله تعالى «وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً». والآية «قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا». فتكرار كلمة يحاوره دليل على أن نقل الفكر لا يكون إلا بالحوار، ونرى في هاتين الآيتين فكراً مختلفاً لكل منهما، فالحوار إذاً ينقل الفكر، ولابد، بما أنه ينقل الفكر، أو يقدمه، أن يكون على قدرٍ عالٍ من المواصفات، التي تقدم هذا الفكر بشكل سليم، حيث إن الله، سبحانه وتعالى، يحث على الكلمة الحسنة، كما في قوله تعالى «وقولوا للناس حسناً». وقال في آية أخرى «جادلهم بالتي هي أحسن». إذا الحوار مهم لتعايش الشعوب، وتبادل الأفكار، والأصل في الحوار هو المراجعة في الكلام، والتجاوب بما يقتضي ذلك من أمانة المتحاور، وصدقه، وجلُّ همه أن يكون الحوار من أجل هدف ناجح، أو مصلحة عامة، وليس للجدال والسجال، الذي لا فائدة مرجوة منه، ولكي نتجنب الخلط بين الموضوع والشخص علينا التركيز في الحوار على أهمية الموضوع، وليس الشخص، ويجب تجنب الضجيج اللفظي، وتشعُّب الحوار، ولنضع كثيراً من الخطوط تحت كلمة التخصص، فالحوار فن لا يدركه إلا أهله، وأهله لكل منهم عالم ينفرد به، ولابد لكل من خاض الحوار أن يكون مختصاً فيما يتحاور فيه، فالحوار أصل ثابت، والتعامل مع كل الشعوب، وكل الأديان، يجب أن يستند إلى قوله تعالى «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً». هذه الآية في مغزاها القرآني تدعو إلى الحوار الراقي، الذي يؤدي إلى تعايش الشعوب، وحوار الأديان، ونبذ التعصب والكراهية. وأسلوب الحوار من كل الأطراف يجب أن يكون هادئاً، ويُخطئ مَنْ يظن أن رفع الصوت عند إنكار الفعل، أو استنكار الفكر من الشجاعة والقوة، فالهدوء لا يضيِّع الحق، والضجيج لا يُصلح الخطأ، ولكن الحوار يُغيِّر التفكير، ويُصلح الأسلوب، ويُجبر الطرف الآخر على أن يراجع أفكاره إذا كان الأسلوب راقياً، والمتحاور متمكناً، وعلينا أن نعطي للحوار اهتماماً كبيراً، وأن نلغي الجدال إلغاءً تاماً إن أردنا أن نرتقي في الحديث، وأن تتبدل الأفكار، وأن نصل إلى نتيجة، فناقشني وحاورني لأقتنع، ولا تخاصمني لكيلا أصرَّ على ما أنا عليه.