حين نقرأ جبير المليحان تَعبر أذهاننا أفكار كثيرة؛ فعالمه القصصي مليء بتلك الإيحاءات التي تذهب بعيدا مختزلة عوالمه الداخلية التي يتأمل فيها الوجود الإنساني، من خلال التعمق في تصوير المساحة المتروكة للأرواح التي تعاني دون القدرة على تغيير الواقع المحيط بل هي تركن في كثير من الأحيان إلى مألوفها، نجدة من اختطافها داخل غربة لا يمكن أن تمتد أكثر في روح الكائن الإنساني، المشكلة التي تتفتق عنها القراءة الأولى هي فك تلك الإشارات التي تدور مع الحدث متعمقة لتذهب بالمعنى نحو تعددية قابلة للتأويل، وهي تترك أثراً ثقيلاً على من لا يستطيع ملء تلك الفراغات المتعمدة في نصه، أشير هنا إلى تلك الإحالات إلى عالم رمزي أشبه بالكوابيس منه بالأحلام، عالم جبير المليحان القصصي لا يشبه إلا نفسه. ما الذي يحيل الجملة من اللا معنى في القراءة إلى المعنى؟ ونحن نتأمل صياغات جبير المليحان في هذه القصة التي سماها بالهلام (دبّ الرجل الهلامي في الأرض)، ونحن نعرف المفردات، من دب والرجل وشبه الجملة «في الأرض»، لتعطينا معنى مكتملاً، لكننا لا نألف وصف الرجل بالهلامي، وتبدأ التساؤلات التي تظهر أمامنا حول كيف يكون الرجل هلامياً؟ ولماذا هو هلامي؟ وما الذي منعه من أن يكون رجلاً سوياً؟ وتناسل كل تلك الأسئلة وغيرها، هي التي تملأ الفراغ الذي يتحدى الفهم، وبمحاولة ذلك نجد أنفسنا نجد السير في الذهاب مع القراءة التي تدفعنا إليها حالة التشوف التي خلقتها تلك الفراغات التي بناها جبير المليحان في قصته، وهي ما يدفعنا أن نأمل في فهم هلامية الرجل، وهو يتساءل عن لماذا يصرخ المولود فور خروجه للحياة؟ هناك أمر ما مقلق هو ما جعل ذلك الرجل يصير هلاما، فهل القلق من مادة الهلام؟ أم هو قلق وجودي يساوي الهلام الذي جبل منه ذلك الرجل؟ أم ترى هي تلك العلاقة الموجودة بين العنوان الذي يشير إلى الهلام ليوحي لنا همساً اعتباره مادة الخلق في القصة وهو يحيل إلى الطين في الموروث باعتباره مادة أولى للخلق، ولم يكن الهلام مقصوراً على خلق الرجل الذي يرى بل لكل الرجال. إنه تحول اللا معنى إلى معنى ما في الذهن بمحمولات اللغة التي تتفاعل في القصة، ونظل في أفق السؤال مرة أخرى هل هذا هو المعنى الوحيد الذي يمكن أن نستشفه من حالة التأويل، هل هناك إمكانات أخرى متاحة، يظل السؤال مشرعا. «رجل هلامي بعد أن ساح في الأرض طويلا يجلس على صخرة ويحمل في يده كرة زرقاء»، ما الذي يريده منا الراوي في الإشارة إلى السياحة في الأرض، فهل تلك إشارة إلى جمع الحكمة والمعرفة والعلم، أم هي مجرد ديباجة دخلت القصة، ولكن كيف لنا أن نثق بالرجل الهلامي دون ذلك، وأنه عندما ينظر في الكرة يرى، هكذا يذهب بنا جبير المليحان منذ بداية القصة، وفعل الرؤية والكرة تذهب بنا لا إلى كرة القدم بل إلى كرة البلور التي يدعي كثير ممن يمارس قراءة الغيب أنهم يرون في كراتهم البلورية ما لا يرى من المستقبل، ويبدو أن زرقة الكرة هي التي تحيل إلى البلور بصورة ترابطية تعبر عن لون بعض الزجاج، لكن ما هو المعقول في رجل يجلس على صخرة ملساء وينظر إلى كرة بلورية ويرى كل ذلك، إنه البناء الذي يذهب إلى اللا معقول فيما يشبه تركيب الكابوس، ولكنه كابوس يحمل زمنه الذي يمكن أن يطوى. كلنا خبرنا الأشجار وما تثير في النفس البشرية من متعة وامتلاء، خصوصا ونحن نعيش امتدادات الصحراء الكبرى التي تهيمن على كل ملامح اليابسة ما عدا تلك التي تنعم بالاخضرار، ولكن كيف يمكن أن تتحول الأشجار، وأشجار الرمان بالذات وهي الفاكهة اللذيذة التي تروي العطش وتبني الجسم وتصبغ الثياب وتبرئ الجسم من أدوائه إلى شجرة لا تشبه شجرة الرمان، إنها شجرة تقوم على تلك المقاربة في اللغة بين الرمان والرمانة، ذلك الاسم الأخير الذي يستخدمه بعض الأشخاص للقنابل اليدوية، وبالتالي يحيل ذلك القلب للكلمة في مسمياتها إلى استيعاب الذهن للرمانة التى انفجرت في قصة جبير، تلك الرمانة ليست رمانة من رمانات الطائف، إنها رمانة الشر القبيحة التي تحيل الزرع رماداً وتمحو الضرع بالموت. هكذا يدير المليحان كتابته للقصة، لتبدأ بسؤال عن لماذا يصرخ المولود فور خروجه للحياة، ويذهب بنا بعيدا في بناء القصة ضمن أحداث لا يسير فيها الزمن منسابا في دورته الطبيعية ولكنه يعود في النهاية بشكل دائري ليعيد لنا إجابة السؤال: لماذا يصرخ المولود فور ولادته، هل يدرك ذلك الكائن الطارئ على الحياة كل العذابات التي تنتظره، عذابات روحية وجسدية، فكأن صراخ الأطفال حين يولدون يعبرون عن رفضهم لكل هذا وتمردهم على خاتمة الحياة وما قبلها من عذابات، إن زمناً يسير بشكل دائري من الولادة حتى الولادة مثل الكرة التي تتشكل من دوران الدائرة حول نفسها. فيسير المليحان قصته عبر زمن يسير سريعا في البداية، ويظهر ذلك من كون الرجل الهلامي يتعجب من سرعة الزمن، ولكنه أيضا يسهم في تلك القفزات المتسارعة، كلما أدار الكرة يطوي بفعلها السحري الزمن دون أن يبدو ذلك الزمن محدودا بمقاييس موضوعية، وإنما يحكم ذلك الزمن ما تحتاجه بنية القصة من مسيرة متخيلة تستكمل دورتها؛ لذلك يتحكم الرجل الهلامي بالوقت عبر إدارته للكرة الزرقاء، فيرى الزمن يمر سريعا، ولكني أظل أتساءل لماذا أدار الرجل الهلامي تلك الكرة ست مرات؟ وقد حضرت قبل ذلك مرة في البداية معه، ثم صرخت في النهاية معه أيضا، هل هي القيامة؟ هل هي النهاية؟ هل هي نهاية الإنسان وأن ما يفعل من شرور سيرتد عليه بدماره هو وغرقه في شر أفعاله، وكيف ظلت النخلة باسطة ذراعيها تحتضن الطيور، هل كانت النخلة في القصة تحيل إلى خضرة الطبيعة ومقاومتها لزيف ما يصنعه الإنسان؟ هل مقاومة الزمن ممكنة باستمرار الحياة؟