يبرز مفهوم الرشاقة الذهنية في الحقول التربوية الحديثة؛ إذ يتمظهر ضمن طرائق التدريب الذي يسعى للتواصل في منحى ثنائي الاتجاه، مما يعني أن المعلم يقوم بدور الإرسال والاستقبال للمعارف والمعلومات التربوية، التي تأتي في مجال الأهداف المتنوعة للدروس التعليمية. وإن ذات الأمر يتأكد بالنسبة للمتعلم؛ فهو يستقبل ثم يتواصل في عملية عكسية على شكل يرسل التغذية الراجعة، وهكذا تتناوب هذه العمليات من أجل تحقق أكبر فائدة معرفية من خلال تحفيز الكامن الذهني، على مشاركته في النشاط المعرفي عبر وسائل واتجاهات متنوعة من حيث النوعية والعدد؛ بحيث تكون المحصلة الكلية استثمار كل المهارات الاتصالية بطلاقة ذهنية واستثمار معرفي فاعل. يقول أحد التربويين: كنت في السابق أدخل الصفّ لكي أعلّم ثلاثين عقلاً أو أكثر، مادة جاهزة في ذهني، ولكني فشلت؛ حيث كان اهتمام المتعلمين نحو ما أطرحه مفتقداً؛ إذ يخيّم الصمت غالباً، وأحياناً تبدو تنهّدات المتعلمين كإشارة إلى جو الملل والتعب، الذي يشعر به أغلبهم، لعدم وجود ما يجذبهم إلى المحتوى التعليمي من جهة الأسلوب والوسائل تحديداً. وبالرغم من أن المتعلمين كانت تتوفر لديهم آراء وأجوبة كانت تحتاج إلى استفزاز إيجابي، من خلال صياغة لأسئلة تستهدف إحداث تحفيز اتصالي بين المعلم والمتعلم، فقد يكون السؤال لدى المتعلم، وحين ذلك يكون دور المعلم الإجابة على السؤال. كما أن السؤال قد ينطلق من المعلم إلى المتعلمين، في "محاثّة" معرفية للإجابة على السؤال المطروح. تلك هي الرشاقة الذهنية التي تعني القدرة الذهنية على تحويل كل جواب إلى أسئلة، وتحويل كل سؤال إلى أجوبة. ويقال إن الذهن الممتلئ يشبه كأس الشاي المملوءة حتى الحافة؛ لا فراغ فيها، فكل ما نصبّه فيها، يطفح على الطاولة، ولا يبقى مما نصبّه شيء. وهذا يعني أن هناك أذهاناً مليئة بالآراء، وتقف مقاومة ضد أي آراء أخرى، كما أن هناك أذهاناً تهدف إلى المجادلات العقيمة، التي لا فائدة منها، بل هي هدر للوقت وللكفاءة والفاعلية. إن عدم وجود حوار بين الفراغ والامتلاء في الذهن، يشير إلى عدم توفر رشاقة ذهنية. ثم يكمل التربوي نفسه مشخصاً السبب الذي كان وراء فشله في تحقيق تعليم جاذب ونافع، ليجد أن العلة الرئيسة هي منه نفسه؛ فهو ممن لديه أفكار وآراء وجد نفسه تعودت على فرض سيطرتها وهيمنتها على فرضها على المتعلمين، بالرغم من أن التنهّد والملل كان واضحاً على المتعلمين، الذين يقابلهم المعلم بالتهكم والتعليقات الساخرة أو الامتعاض والعقوبة، بينما تتغلف سلطوية المعلم بدثار ظاهرة حسن النية وباطنه من قبله العذاب. ويمضي التربوي معزّزاً قوله بأن الواجب هو الاعتراف، قبل كل شيء، بأن الصف الدراسي أو غرفة التدريس هو مكان لعلاقة تتفاعل فيها الآراء مهما تباينت، وتتواشج فيها الأفكار المتجانسة في عملية تتكامل ركائزها، من أجل الوصول إلى بيئة تعليمية وتربوية جديرة بالثناء في كل تفاصيلها. ولأن الأنا المتضخمة لدى المعلم هي غالباً تكلّس وتحجّر معرفي، يصدّ عن بلوغ الأهداف التربوية والمعرفية المنشودة، تصاب الحالة التعليمية بما يشبه بالضمور الذهني والتراجع المعرفي. وهكذا فإن عدم القدرة على أن يظهر المعلم في دور متعلم يتسبب في محصلة تعليمية سلبية، مما يؤثر على مخرجات العملية التعليمية والتربوية جودةً ونوعيةً، وهذا ينطبق على كل مراحل التعليم. ونخلص إلى تعريف آخر للرشاقة الذهنية بكونها قدرة إرادية للتحول الدائم، فيصير المعلم متعلماً في تزامنية إثرائية في حلقة النمو المعرفي، ضمن السلوك النفسي للمعلم في نطاق رسالته المهنية. إن كل مكان تتسيّده الهيمنة وتتوارى فيه الصداقات الإيجابية بين المعلم والمتعلم، سوف يفضي إلى نظام هرميّ ما عاد مجدياً، والواجب في سنن التغيير الإيجابي أن نصيغ مرحلة تصحح المفاهيم السلبية، واستبدالها بما هو مفيد.