إن كنت تبحث أيها القارئ الكريم عن بديع الكلام من إنسان فتح الله عليه بنداوة ولطيف العبارة وجعل البيان طوع بنانه، له أسلوب مشرق يعطي للحياة رمزاً ويهذب النفوس ويصلحها، ينسج من الأفكار ما تجري من تحتها الأنهار لتكون منهلا عذبا للواردين إليه ترتشف منه حواسهم بلذة حتى ترتوي، فما عليك إلا أن تصغي لخواطر ودروس إمام الدعاة «الشيخ محمد متولي الشعراوي» رحمة الله عليه.. وهو رجل فيض.. من معشر باعوا الإله نفوسهم يرجون منه مثوبة المتقبل.. من الذاكرين الله في حلك الدجى والراكعين بعبرة وتذلل. في أحد دروس الشيخ التي كنت أستمع إليها سكنت وصية خاطري وخلقت بداخلي السكينة والصفاء.. وصية فيها من الحب ما دفعني للكتابة عنها، فاخترت أن أنقلها إليكم نصا حتى يسلم القلب ونتوجه جميعنا إلى المقام الأسمى في مشاعرنا وعواطفنا. ما هو الحب؟ يقول الشيخ الشعراوي في وصيته: الحب هو توجه القلب إلى المحبوب توجه يربط نفعه بنفعك ومضرته بمضرتك.. له نوعان.. حب عقل وحب عاطفة. حب العقل هو ما يرجح العقل نفعه كما يحب المريض الدواء المر «أنا لا أحب الدواء المر بعاطفتي لأنني أكرهه، لكني أحبه بعقلي لأنه سبب العافية». أما عن حب العاطفة فهو ليس له دليل عقلي «فأنا أحب ابني حتى وإن كان غبيا وأحب ابن عدوي إن كان ذكيا». لما قال رسول الله لسيدنا عمر.. لا يكون إيمان أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه.. قال عمر: يا رسول الله أنا أحبك عن مالي وولدي أما عن نفسي فلا.. فكررها له رسول الله «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» وكررها ثالثة.. علم عمر بعدها أن هذا كلام عزيمة.. فقال: الاّن أحبك يارسول الله.. لأنه علم بعد أن كررها الرسول ثلاثا أنه لا يعني بها حب العاطفة لأن حب العاطفة لا يقنن له.. أراد رسولنا الكريم حبا عقليا. فلو كان حب عمر للرسول حبا عقليا لما قدم حبه عن ماله وولده فقط، فحب العقل هو حب التكليف والإثبات والفعل وإجبار النفس على العسير إن كان في الأمر منفعة.. فهو الأبقى والأمثل وهو المراد في هذا الحديث. وقد يتسامى الحب العقلي ويرافق الحب العاطفي وهذه مرتبة وصل إليها عمر والخلفاء الراشدون وبقية الصحابة والتابعين وأولياء الله الصالحين ذلك أن حبهم لله ورسوله فطري لكنهم بذلوا الأموال والأنفس والأولاد نصرة ثم ولاء لهذا الحب فلم يكتفوا بالعاطفة فقط. فو الله أنك قد صدقت وأصبت يا شيخنا الجليل، فلقد اضطربت المفاهيم واختلت الموازين فلم نعد ندرك ما هو الحب الحقيقي وما هو الوهمي.. إن الحقائق قد غابت والقلوب قد قست والأمور تعقدت، لكنك ياشيخنا أخذت بأيادينا ووجهتنا ونورت دروبنا وفتحت لنا أبواب المعرفة ودعوتنا دعوة المشتاق ثم شرحت لنا ما يؤدي إلى إسعادنا وما يوافق أغراضنا ويلائم طبائعنا البشرية، فنحن أقصى ما نتمناه في حياتنا الدنيا حب عقلي فعليا لا عاطفيا سطحيا دون معنى ودون عقل يقويه ويجمله، فبالعقل نتغاضى عن صغائر الأمور ويستمر زورق الحياة في إبحاره متخطيا عقبات ذات اليمين وذات الشمال. طيب الله مرقدك وجمعنا بك عند موضع رضاه ومحل عنايته ونظره.. عند سدرة المنتهى في سمائه السابعة فالمرء يحشر مع من أحب.. فهناك الحب أحق وهناك الحب أسمى وهناك الحب الإلهي الذي هو أصل الكون والوجود.