عبثاً نحاول غربلة الذكريات لنستدعي أجملها كبذرة ابتسامة نزرع بها سعادة حياتنا لكن سيامية الأحداث الموجعة تُبقيها ملتصقة بأفراحنا! إن رحلة الذاكرة والتذكر في حياة الإنسان تغلي على ثلاثة مراجل: ماض يكتنز المواقف، وحاضر يحيلها ذكرى، ومستقبل طليق يفر إلى التخيل. الذاكرة علمياً معنية باستقبال المعلومات من صور، وتواريخ، وأحداث وروائح وحفظ ما تتلقاه حواسنا الخمس من معارف وعلاقات وعمليات عقلية -مع اختلاف ذاكرة الوهم والحلم- فكل صور الفرح والحزن مختزنة توقظ نوع الذاكرة المناسب حسب الاستدعاء؛ كمرورك بمكان ارتدته صغيرا يوقظ ذاكرة اعتياد الشارع الذي كنت تمر به، والروائح توقظ الذاكرة الشمية! أما الأصوات فتوقظ السمعية والصور توقظ البصرية فما أجمله من إيقاظ إن كان لحدث يبتهج بمروره القلب؛ إن الإنسان الذكي يستثمر ذكرياته الجميلة لإسعاد ذاته ومن حوله لأن المؤلم منها يعيد له الشعور بالحزن فعليه أن يدرك ذلك فكم من وجع تحكم في سلوكيات أحدهم فانتقم من الماضي في صورة الحاضر؛ وما وقوف الشعراء بالأطلال إلا صورة ذكرى آلمتهم؛ قال الأعشى: لمَيْثَاءَ دَارٌ قَدْ تَعَفّتْ طُلُولُهَا ** عفتها نضيضاتُ الصَّبا، فمسيلها لما قدْ تعفّى منْ رمادٍ وعرصة ** بكَيتُ، وَهَلْ يَبكي إلَيكَ مُحيلُهَا والتخيل تحكم العقل اللا واعي بحرية بعيدا عن الصدق أما التذكر فيتحكم فيه العقل المدرك باسترجاع الصور الواقعية التي حدثت، كإحدى وظائفه؛ وكلاهما نحتاجه لنصبح قادرين على التعايش والتكيف. لا توجد ذاكرة ضعيفة لكن تتفاوت قوتها من شخص لآخر حسب قدراته فالمتميز بالتحليل ذاكرته ترابطية والمتفوق في الحفظ إسعافية.. الذاكرة هي الأكثر التصاقاً بالمخ وقوام الإدراك والوعي الذي يحسن به الإنسان جسده وروحه، ومرضى فقدانها يشعرون بالحزن والاكتئاب لعجزهم عن التذكر فدونها يفقدون أهليتهم إذ لا حياة بلا ذاكرة بغض الطرف عما يتذكرونه. المذهل أن المعلومات المحفوظة لا تمحى فقد سجلها ملكان وعندما تعرض يوم القيامة سيتذكرها ويجد كل ما فعل حاضرا ولا يظلم ربك أحدا قال تعالى «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان ما سَعَى».