في الذاكرة صورة جميلة للماضي ذات جاذبية أسرت القلب والعقل معا تأبى أن تقارن بصور اليوم، فتتفرد بجمالها على عرش تلك الذاكرة، فتمحو كل صور الحاضر ومن خلالها يعيش الإنسان يومه بالأمس. يستعيد لذة ذلك الماضي في واقع كسير تاركة في نفسه الحزن واللوعة وفي عينه نظرة حزينة تدل على الهروب من الحاضر ورغبة شديدة في عودة الماضي. فيسافر الفكر ليحلق بين طيات الماضي ويعيش ألوان تلك الصورة حائرا بين ذكراها البيضاء وحنينها الأسود، فيبقى أسيرا بين بروازها هروبا من واقع لم يكن مثلها ويكون على اتصال دائم بذلك الماضي بأحداثه وشخصياته في حاضره، حارما نفسه عيش اليوم وحب الغد فيبقى القلب والعقل منشغلان في الماضي تحت ما يسمى بالحنين أو – النوستالجيا -. الحنين - النوستالجيا – هي حالة سوية، ولكنها قد تتحول إلى حالة من حالات الاكتئاب وألم يعانيه الإنسان إثر حنينه وحبه الشديد لعصر مضى بأشخاصه وأحداثه. من الطبيعي أن يعتري الحنين النفس البشرية التي لا تنكر ذلك الماضي ولا تتنكر له، ولكن قد يسكن هذا الحنين في نموذج سيئ معطل الطاقات والإمكانات أيضا على كافة المستويات، ويتمثل هذا النموذج في الوقوف على الأطلال والتغني بالماضي والعجز عن عيش لحظات الحاضر، دافنا جسده النحيل في تلك الذكرى على أمل أن تعود وترد إليه روحه التي رحلت ذليلة باحثة عن سبيل العودة لتلك الذكرى تاركا دينه ودنياه تظلما. نعم النوستالجيا حالة سوية طبيعية يعيشها الإنسان ويمر بها في حياته، وهي نعمة خصه الله بها عن غيره من المخلوقات، لكن يجب أن نحذر من أن تتحول إلى نقمة حينما نعيش تحت ظل شعاراتها التي تحكي عن صورة الماضي وحب ذاك الماضي، متناسيا لحظات الحاضر بل وكأنها الملجأ الذي نهرب إليه لمرحلة تكاد تفقدنا القدرة على معاصرة اليوم ومواجهة المستقبل. كتب الماضي دروسه على ذاكرتنا فتعلمنا منه، واليوم حان الدور لمحو تلك الكتابة لا ما تعلمنا، لكتابة دروس جديدة وبالتالي امتلكنا قدرة على كتابة دروس مستقبلية بدلا من الاكتفاء بدور المتلقي الخائف من كل جديد. ماضينا جميل ونحبه نعم.. لكن لا ننسى ما نحن فيه الآن والأهم أن ندرك أن الآتي أجمل.