كُتب عبدالله القصيمي الأولى التي كتبها عندما كان شيخاً سلفياً واضحة الخط. كتابه «هذه هي الأغلال» يمكن تصنيفه في خانة كتب التنوير الإسلامي التي تنتقد التزمت ولا تخرج عن دائرة الدين. أما كتبه الكثيرة التي انهمرت بعد ذلك فيكفي منها فصل واحد لكي يغني عنها كلها. فالفصل الأول من أي كتاب منها يشبه الفصل الأخير، وليس هناك أي بناء ولا تراكم ولا محصلة نهائية. لغة أدبية لا تحمل مذهباً ولا رؤية، فقط هو الأنين من الألم الذي يشعر به الأديب عندما يتعرض للقضايا الكبرى ويشعر بخطر تحديد موقفه منها. هل كان عبدالله القصيمي ملحداً على الطريقة المادية التي تؤمن بالمذهب الطبيعي؟ الجواب هو لا. فالمذهب الطبيعي موجود قبل ستمائة سنة من ميلاد المسيح وكان يتبناه بعض الفلاسفة الإغريق مثل ديمقريطس وأبيقور. الحقيقة، أن اليونان في تلك الحقبة طرحوا كل الرؤى الفلسفية الممكنة للإنسان، فوُجد بينهم الفيلسوف المثالي المؤمن ووجد بينهم الماديون الذين لا يرون في الكون شيئاً أبعد من المادة، ووجد بينهم الشكاك من أمثال بروتاجوراس وجورجيوس الذين يقتربون أكثر من الماديين، إلا أنهم أحياناً قد يشكون في المذهب المادي نفسه. أزعم أن كل الفلاسفة منذ أيام الإغريق وانتهاء بجاك ديريدا المتوفى في 2004 تدور في فلك المذاهب الثلاثة هذه، فإلى أي تلك المذاهب ينتمي عبدالله القصيمي؟ بكل تأكيد إنه لا ينتمي للمدرسة المادية التي تتبنى المذهب الطبيعي، فالمادي قد حسم أموره وانتهى. ولذلك هو لا يتحدث عن الله – جل جلاله – لا بخير ولا بشر، لا بمدح ولا بذم. فهو لا يؤمن بوجوده ولا ينسب إليه من الأفعال أي شيء، فلا يعتبره مسؤولاً عن بؤسه كما نرى في بكائيات عبدالله القصيمي التي لا تحصر. هو بطبيعة الحال لم يبق أفلاطونياً بعد ما كتب، فالأفلاطونية نسق ونظام وليست ثورة، وعبدالله القصيمي ثورة على النسق والنظام، فلم يبق إلا أن يكون من الشكاك كما واضح من «انشغاله السلبي بالله». وهو بدرجة أخص ينتمي لموجة التفلسف التي سادت القرن العشرين وهبت رياحها على العالم العربي من ألمانيا وفرنسا بدرجة أكبر، أعني التفلسف الوجودي. ولا أقول الفلسفة الوجودية لأنها لم تصل لمستوى الفلسفات النسقية المتمذهبة وإنما حالة تفلسف وصفها الفيلسوف البريطاني برتراند راسل بأنها «احتجاج انفعالي قائم على أسس نفسية منها الشعور بالاضطهاد». الوجودية حقاً ليست بمذهب فلسفي، وإنما تمرد يناسب شخصيات الأدباء والشعراء كالقصيمي. لكن، إذا كان القصيمي وجودياً، فما هي الوجودية؟ يرى الوجوديون أن الوجود يسبق الماهية، هذه الفكرة الأساسية وصلب موضوعها. فمنذ زمن أفلاطون إلى القرن الثامن عشر، كانت المقولة إن هناك طبيعة بشرية أساسية تتمثل في كل إنسان، وتحدد ما يمكن أن يحققه من فضائل كما تحدد أدنى ما يمكن أن ينحدر إليه من رذائل، وأن هذه هي ماهية الإنسان التي لا يمكن أن تتغير إلا قليلاً. مهما كانت بيئته أو اختياراته الشخصية، فهو أسير ماهيته أبداً. وماهيته شيء غريزي يولد معه ويتجلى كاملا خلال حياته.أما الوجوديون، فقرروا أن الإنسان ليس له ماهية إطلاقاً بهذا المعنى الذي يسبق وجوده الفعلي الفردي، بل الإنسان يصنع ماهيته الخاصة بصفة فردية، وبدون أن يشترك معه طرف آخر في ذلك، وهذه الصناعة تمتد طوال حياة الإنسان. بمعنى أن العمر كله يسبق اكتساب الماهية. الماهية تكتمل بالموت. ثم بعد ذلك ماهيتي ليست جزءاً من ماهية الجنس البشري، بل هي ماهيتي أنا فقط. والذات الوجودية مهمومة بذاتها، باستمرار لا ينقطع إلا بالموت، والقلق هو الحالة الوجودية في أسمى مقاماتها، فهو قوة خارجية تسيطر على الإنسان فلا يستطيع الفرار منها. والمقلق في القلق هو إمكانية التحقق في الوجود، فما عليه القلق هو الوجود الحقيقي بمعناه الأسمى الصادر عن الوجود الماهوي، ولذلك يقول هايدغر: «إن القلق يكشف عن العدم». إذ هو يشعرنا بفرار الوجود منا وانزلاقه ونحن معه، فالعدم ليس موضوعا قائما بجانب الموجود، وليس فكرة من بنات أفكارنا ولا شيء يجذبنا إليه، ولا شيء يوصلنا إلى نهاية القلق إلا عندما نلتقي بالطمأنينة، يحدث هذا اللقاء فقط عند «لحظة الموت». هنا يتجلي لنا بوضوح «بؤس الفكر الوجودي» الذي تنضح به كتب عبدالله القصيمي، وتستغرب من أولئك الذين يريدون أن يجعلوا منه رمزاً للاستنارة يقدم للشباب، بينما هو ليس سوى بوابة للشقاء.