كَتبتْ في رسالتها: قدَّر لي الزمان أن أُولدَ في الحياةِ جوفاء من غير قلب، جثة تترنحُ داخلَ كهوف الحَيرة، أطأ أشواك العزلةِ، وأتنفسُ العدم، أنفضُ عن ملابسي الغبار المتلبدَ، وخيوط العنكبوت، أتناول من الظلام ما أغطي به الصلع. ترحلُ يداي لأقبض كومة الوهمِ، يسيلُ لساني بحموضة الليمون. أرى أظافرَ الموتِ تخترقُ روحي عند التحدث للغرباء، لم أطمئن للبشرِ إلا لفاقدي البصر، كانت مدينتي مقبرة بأصواتٍ مزعجة. طرقاتٌ ثلاثٌ أيقظتني من الموت، تبعْتُها على غير هُدى بتيقنِ الأمل، لم أعد أعبأ بإحداثِ ضجة تملأ المكان. أدخلتني مكاناً برائحة النرجس، يطيرُ في الهواء، فأراه بألوان الفرح، لم يدر في هاجسي أن هناك نافذة في الدنيا تُطِلُّ على الجنة، أو أنه من الممكن التحدث للأموات. مازلت أخاف الغرباء، ولكن خطواتي كانت أشجع من يأسي. أَمطرتْ لحظاتي كما كانت قد أمطرت يوم ولادتي، ولكنها بدت كما لو أنها تُمطرُ بطريقة أخرى، لأن أرضاً مختلفةً كانت تتراقص تحت قدمي. أحسست بورمٍ، يَنبتُ داخل صدري، علمتُ أن قلبي بدأ يتشكَّل، لابد أنه مطرُ الحياة. همتُ بالمكان، وعشقتُ الاحتفال، آليتُ على نفسي ألا أدع المكان حتى يدعني. وفيتُ بوعدي، وأنزلتُ رحلي، وزادي وحُليتي. المكانُ أحس بوجودي، واستشعر نمو قلبي. ذات المكان الذي ألهمني، هو ذاته الذي رحل، الفارق أنني لم أعد جثةً تتهاوى في غياهب العدم، بل روحاً تتهادى في مسالك اليُسر. الأماكن أكثر وفاءً من البشر، ترتحلُ، ولكنها لا تطلق الرصاصة، تذهب، ولكنها تعود. في ذات الزمان بعد دورة للشمس كاملة، عاد ذات المكان، بذات الرائحة، وبذات زخات المطر، كان الورم قد عظُم في صدري، يملأه الشوق والحنين. التقيته لقاء دالج الصحراء بواحة الخيرات، هنِئت معه، ومرئت، ثم ارتحل. قبل فترةٍ قليلة فقط التقيته لآخر مرة، وتحت ذات زخات المطر بثثته أشجاني، وحدثته عن أشواقي. فالعشق عندي ليس لجنس الرجال أبداً، فالأماكن لها أرواح، تستحق أن تُعشق، ولها شفاه جديرة بأن تُلثم. معرض الكتاب لهُ وجهٌ، تكتسيه تعابير الشفقة عليَّ، ورغبة جلية في إحياء أرض موات، واحتضان جسد، يهرب من أوارِ الواقع، كان هو الملاك الوحيد الذي يشاركني فرحتي، وهو فرحتي، هو عندي أريج المسكِ، الذي يطرد رائحة الغبار، هو حفيف الهواء، الذي يتخلل حجرات النوم المغلقة. معرض الكتاب قصة حبٍ، وطوق نجاة، أعانقه بكل خيالات الأنثى المُستهامة، أعانقه لأفارقه، وأفارقه لأعانقه، حتما سيعود من أجلي. ارحل معرض الكتاب، فعطاؤك معي أتقلب بين دفتيه، وأرتشف منه الزلال، وفاء وحباً لجميل أسديته إليَّ في غابر الأيام.