شاعرٌ وناقد، منظرٌ بوهيمي يعيش حياته في صعلكة الوديان، والعواصم، لكنه أكثر الشعراء جدية في تعامله مع الواقع، ذهب إلى اليابان بعد فترة طويلة قضاها خارج العاصمة السورية دمشق، بين طالب على مقاعد الدراسة في باريس ومدرس في جامعة وهرانبالجزائر، وقادته الصدفة ليكون في اليابان.. هو الشاعر السوري محمد عُضيمة، مقيم في اليابان ويعمل أستاذا للأدب العربي في جامعة طوكيو، ولد عام 1958م في قرية (رويست العجل) القريبة من مدينة جبلة في الساحل السوري، ذهب إلى دمشق وحصل على شهادة اللغة العربية من جامعتها، ليتسع ولعه بعد ذلك بالشعر ومدينة الفنون باريس التي ذهب إليها على نفقة والده الفلاح وحصل على درجة الدكتوراة من جامعتها. عاش متنقلاً بين باريسوالجزائر وعمل مدرساً في جامعة وهران ما يزيد على 4 سنوات، ثم عاد إلى باريس، ليقيم فيها مدرساً للغة العربية غير متفرغ، وما لبثت الصدفة «الأدونيسية» أن تقوده ليكون أستاذاً لتدريس اللغة العربية في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، حتى استقر به المقام منذ عام 1990م. يعتبر عُضيمة صاحب مشروع ناضج حقيقي متميز فقط من أجل الشعر والحياة والفرح، من ترجماته عن اللغة اليابانية: (أنطولوجيا الشعر الياباني – كمشة من رمال – كتاب الهايكو -). ومن أبرز مجموعاته الشعرية (شكراً للموت – يد مليئة بالأصابع – لا لا لن أعود إلى البيت)، كما قدم ديوان الشعر العربي الجديد في 5 أجزاء، وهي مختارات شعرية استخدم فيها الرؤية اليابانية للقصيدة العربية الحديثة. في الجزء الأول من هذا الحوار يتحدث الشاعر عُضيمة عن بداياته والحضور العربي في الحياة اليابانية متطرقاً لبداية دخوله اليابان. ليست إقامة دائمة اتخذ محمد عضيمة من العاصمة البحرينية محطة عبور له في طريق العودة إلى دمشق كل عام، وهذا ما جعلنا نلتقي أثناء ذلك العبور أكثر من 10 مرات قبل أن تتغير خارطة حضوره إلى دمشق، وما كان يعتبر وجوده في اليابان إقامة دائمة حيث يقول: «ليست إقامة دائمة في اليابان، بل هي بين اليابان والشام. فأنا أعود إلى سوريا شهرين في الربيع وشهرين في الصيف.. ما عدا ذلك لم أكسب شيئا سوى الخسارة، هذا بحسابات الجملة. أما بحسابات المفرق، فربما أكون قد أضفت شيئا إلى تجربتي في الكتابة، أو عدلت شيئا في وجهة نظري إلى الجمال والجميل. فمثلا لم تعد اللغة الشعرية ذات المنحى المجازي، الاستعاري، تمنحني متعة تستحق الذكر، أي لم يعد أعذب الشعر أكذبه. وصار الكلام العادي في نظري أهم من الكلام الشعري المتأنق وغير المفهوم. الشعر العربي الحديث في غالبه غامض وفيه كثير من الفذلكة اللغوية التي لا مبررات شعرية لها ولا علاقة للناس بها. سيقال إن الشعر كان دوما هكذا، ربما لكنه لا يعني سوى صاحبه.. أنا مدين لأدونيس بما أقول. - أدونيس أستاذي الكبير وصديقي الدائم، سواء عبر العلاقة الشخصية أو عبر مؤلفاته التي لا تفارقني. فأنا مدين له بكثير مما أقول وأكتب، وهو حاضر دوما في ذاكرتي عند الحديث عن الشعر أو الثقافة بشكل عام. ولا أظنني الوحيد في ذلك على امتداد عالم الناطقين بالعربية. فهناك تلامذة آخرون كثيرون له أذكى مني وأكثر نشاطا. لعلي أكسل الجميع، أو صرت هكذا بعد الإقامة اليابانية. في اليابان لا تستطيع أن تفعل شيئا كبيرا للثقافة العربية. فالوجه الديني، الغيبي، الميتافيزيقي، بما في ذلك الشعر، لهذه الثقافة، يحول دونها ودون الياباني. فاليابانيون بشكل عام، كغيرهم، يفضلون ثقافة الأمم القوية المسيطرة اليوم، أي الأوروبية والأمريكية والروسية والصينية. وكلمة عربي صارت في ذهن الياباني رديفا لشيء سلبي، أو هي كذلك في الأصل. قلما وقعت على حالة مخالفة طوال هذه السنين: أنت عربي، شاعرا كنت أو روائيا أو رساما أو سياسيا أو تاجرا أو ما شئت، إذن فأنت منغلق لا تأكل كذا ولا تشرب كذا ولا تفكر إلا بالجنس والنساء، إلى آخر أسطوانة من السلبيات التي توجع الرأس. وهذه الصورة، على واقعيتها، مأخوذة بحرفيتها عن أوروبا والأوروبيين وما يقال هناك عن العرب والمسلمين. لكنها تعززت أيضا من خلال معرفة كثير من اليابانيين للعالم العربي. فقلما يعود ياباني من زيارة بلد عربي بصورة إيجابية، وقلما يعود ولم يحدث له شيء غريب هناك. - طبعا كل هذا يؤثر عليك وعلى كتابتك. فأنت تحاول تغيير هذه الصورة بشيء من الممارسة حينا وبشيء من التنظير. ولكن الوقع سيكذب ما تريد أن تقوله. تحاول أن تعرف كيف يفكرون جماليا، ولماذا لا يتذوقون الشعر الغربي الميتافيزيقي، مع أنهم ترجموه بالكامل. من الممتع أن تتعرف على طريقتهم في تذوق الشعر والجمال اللغوي. وأمتع ما في الأمر هو غياب اللغة المجازية، ليس لأنهم لا يريدون بل لأن اللغة اليابانية غير مجازية. لذلك سيبدو الشعر الياباني المترجم إلى العربية، أو إلى غيرها من لغات الديانات السماوية التوحيدية، أقرب إلى اللغة اليومية العادية. لأنه في غالبه بسيط وغير معقد. وهذا ما حاولته في كتابي الأخير «أصل بعد قليل»، وأعني به أصل إليك أيها القارئ الآن فورا أو بعد قليل. - تعني لفظة هايكو حرفيا: «كلمة ممتعة»، أو «عبارة مسلية»، أو «جملة غريبة». وهو ما يمكن أن نترجمه بالدعابة، أو بالطرفة. هذه هي روح الهايكو. أي الطرافة. والهايكو أساسا، وتاريخيا، كان نتاج الحياة الصارمة للرهبان في المعابد. أرادوا التحرر قليلا من هذه الصرامة، فأوجدوا هذا الشكل من التعبير الموجز المسلي. فهو يقال بجرة نفس واحدة. واضح جدا، وليس وراء الكلمات أي معنى آخر. فهو يعني ما يقول فقط. يعني جاف، ناشف، حيادي، بارد، الحد الأدنى من الكلمات، ولذلك يصعب النجاح في كتابته. ولذلك أيضا يكتب بشكل مشترك، في كثير من الأحيان، وضمن حلقات ضيقة. يبدأ أحدهم بهايكو حول فكرة معينة، ويقرأه أمام زملائه فتأخذ الاقتراحات طريقها إلى تغيير هذه الكلمة أو تلك، وقد يتم تغيير جميع الكلمات ويبقى الهايكو باسم صاحبه الأول. هو صناعة بامتياز، من تدقيق وتهفيف وترقيق وتلطيف وتنحيف، على الطريقة اليابانية في جميع الفنون، وليس للعفوية فيه سوى نصيب قليل جدا. له إيقاع خاص جدا باللغة اليابانية، 17 صوتا، أو تصويتا، يمكن أن تكتب على سطر واحد أو أن توزع على 3 أسطر. يعني ما يمكن ترجمته بالعربية إلى 6 أو 7 كلمات. ** كما قلت لك منذ قليل، الياباني بشكل عام لا يهتم إلا بثقافة البلدان المتقدمة، البلدان القوية، بما في ذلك الشعر طبعا. هناك بعض الشعراء ممن يهتمون بشعر آسيا اكتشفوا أدونيس ومحمود درويش بالفرنسية أوالإنجليزية. هذا كل شيء وليس أكثر من ذلك. هناك عدد محدود من الشعراء اليابانيين، وهم عموما من الكبار، يعرفون أدونيس جيدا، شاعرا وصديقا، ويعرفون تجربته من خلال ترجماته إلى اللغات الأوروبية الأساسية. لكنه حتى الآن لم يترجم بشكل واسع وكما ينبغي، وفي كل سنة تنتظر الصحافة الثقافية هنا أن ينال جائزة نوبل. فهم يعرفون أنه مرشح قوي لهذه الجائزة، لذلك ينشرون موجزا عنه وعن شعره كلما حان موسم نوبل. مشكلة الترجمة والنشر تخضع للمنطق التجاري في كل مكان بالعالم، وتخضع له أكثر بكثير في اليابان.هنا حتى الشعراء الكبار يعانون من هذه الصعوبة ويشكون منها. إنه جرح الشعر حيثما حل الشعراء. - حكاية ذهابي إلى اليابان يعرفها الجميع. وقد رويتها في كتابي المعروف «غابة المرايا اليابانية». كنت أعيش في باريس عائدا من الجزائر بعد انتهاء عقد العمل في جامعة وهران. آنذاك كان أدونيس هناك أيضا بباريس يعمل منتدبا في اليونسكو، وكنت على تواصل دائم معه. وبينما كنت أزوره ذات يوم في مكتبه، فاجأني بإمكانية الذهاب للتدريس في جامعة طوكيو. كان أدونيس هو المدعو كأستاذ زائر إلى هناك، لكنه ولأسباب عديدة لم يستطع تلبية الدعوة، فتحدث معي بالموضوع وفي ما إذا كنت على استعداد للذهاب مكانه إذا قبل اليابانيون بذلك. في البداية ظننته يمزح، مع أن مزحه قليل جدا بشكل عام، فكيف سيكون الحال بخصوص أشياء جدية كهذه. لم أفهم يومها ماذا سأفعل هناك في اليابان التي لم أكن أعرف حتى موقعها بشكل جدي. حتى رنين الاسم كان غريبا على أذنيّ… وفي النهاية، لم يكن هناك أمامي خيارات أخرى لعمل جدي ومنتظم إلا هذا الخيار ضعيف الاحتمال، ولو لفترة محددة… فكان ما كان ورميت نفسي في هذه الأقاصي المجهولة، بكل معنى الكلمة، بالنسبة لأي عربي مثقفا كان أم لا، والبعيدة منه أيضاً بكل معنى الكلمة… وها أنا ما زلت واقفا، لكن لا أعرف على قدمي أم على رأسي أم على شيء يشبه أحدهما؟ - متنقلا منها وإليها، مرورا بباريسووهران وأخيرا طوكيو، نحو ثلاثين سنة. لكن لم أغب عنها سنة واحدة كاملة إلا في بداية حياتي الباريسية. وكنت فيها منذ عدة أشهر، فالأصدقاء هناك والأهل والتراب هم الأوكسجين الذي أحتاجه أينما ذهبت أو حللت. وينتابني أحيانا شعور أن الأوكسجين غير موجود في العالم إلا في الشام، أما المدن والبلدان الأخرى فليس فيها سوى ثاني أكسيد الكربون.