من اللافت للنظر أن الكتابات النقدية والتحليلية لسياسة المملكة الخارجية في صحافتنا المحلية لا تزال دون المستوى المأمول، على الرغم من وجود بعض الاجتهادات التحليلية الجادة التي تقوم بها بعض النخب السياسية (political elite) في المملكة من تحليل واستقراء لسياسات المملكة بصورة شبه متجردة من المحاذير والقيود التي تفرضها الثقافة المحلية للتعاطي مع الشأن السياسي كنوع من التدخل غير المرحب به، وذلك من منظور المشاركة غير المباشرة في آلية صنع القرار تجاه قضايا الساحة الدولية. وهي اجتهادات محمودة إلا أنه لن يعول عليها كثيراً نظراً لطبيعة هذه التحليلات التي يغلب عليها سمة الانطباعات والآراء الشخصية، التي قد لا تكون ثمرة قراءات جادة متعمقة في الشأن السياسي على المستوى الإقليمي أو العالمي، فهي لن تسهم بالتأكيد بتشكيل وعي سياسي عميق يضع كافة الاحتمالات في مساراتها الصحيحة بعيداً عن التكهنات والتنبؤات التي تفتقر إلى المعلومات الدقيقة تجاه أي حدث راهن على الساحة الدولية، وهذا يقودنا للمطالبة بمراكز بحثية متخصصة أو ما يعرف ب (think tanks) تكون مرجعاً مهماً في آلية اتخاذ القرار على غرار مراكز البحوث الأمريكية مثل مؤسسة ستراتفور المتخصصة بالدراسات السياسية والاقتصادية والعسكرية العالمية، ومعهد الدراسات الاستراتيجية الذي يخدم الأمن القومي الأمريكي ويقدم التحليلات المباشرة للقيادات العسكرية، إذ تعتبر هذه المؤسسات الرافد الأساس للسياسة الأمريكية والموجه المثالي لقواها الناعمة (soft power) لتحقيق مزيد من المكاسب على كل الأصعدة، بالإضافة إلى أن هناك عديداً من المؤسسات والمعاهد المتخصصة بدراسة الشرق العربي والإسلامي في الولاياتالمتحدة، بينما يحدث العكس في عالمنا العربي إذ لا توجد مؤسسة واحدة تُعنى بدراسة سياسة الولاياتالمتحدة أو سياسة العالم الغربي دراسة موضوعية متخصصة تستشرف الأبعاد المستقبلية لسياساتها الراهنة تجاه قضايا الشرق الأوسط، لاسيما أن الدول العربية تعاني من صراعات مزمنة على أكثر من جبهة نتيجة لغياب الحراك السياسي داخل مجتمعاتها، وهو الأمر الذي جعلها لا تجد حرجاً بانفرادها باتخاذ القرارات المصيرية دون الرجوع للإرادة الشعبية التي هي الأساس الذي يُبنى عليه كيان أي دولة وهذا ما جعل الشعوب الغربية تتماهى بشرعية حكوماتها وتزدري ما سواها من حكومات بحجة ضعف شرعيتها وعدم أهليتها لتحديد مصير شعوبها في قضايا السلم والحرب. إن القوة الناعمة التي تتمتع بها المملكة العربية السعودية ممثلة ًبجملة من المرتكزات، من أهمها موقعها الجغرافي المميز، لأن الموقع الجغرافي له تأثير كبير في رسم خطوط السياسة الخارجية للدول، والمملكة العربية السعودية تتميز بكبر حجم مساحتها، إذ تتوسط قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، كما تتوسط العالمين العربي والإسلامي، وهذا الموقع أعطاها استراتيجية خاصة بالذات في مجالي المواصلات والاتصالات بين دول وشعوب العالم، وعلاوة على ذلك فهي محاطة بأهم 3 ممرات بحرية دولية، وهي مضيق هرمز عند مدخل الخليج العربي، ومضيق باب المندب، وقناة السويس من جهة البحر الأحمر، ناهيك عن المرتكزات الأخرى، التي لا تقل أهمية عن موقعها الجغرافي مثل وجود الحرمين الشريفين، الثقل السياسي والاقتصادي المتنامي للمملكة على المستوى الإقليمي والعالمي، كل هذه المرتكزات جديرة بأن يواكبها تحليل سياسي جاد لسياسة المملكة الخارجية لتوظيفها التوظيف الأمثل في تعزيز قوة المملكة الناعمة لمواجهة التحديات الراهنة بالإضافة إلى الاهتمام بإيجاد بيئة بحثية قادرة على التعاطي مع المستجدات الدولية المتشعبة من خلال مراكز بحثية متخصصة تقدم لصناع القرار رؤية واضحة لمجمل أحداث الساحة الدولية. السياسة السعودية الآن يعوّل عليها عربياً وإسلامياً بصورة تختلف عما كانت عليه خلال العقود الماضية فهي الآن تتمتع بطفرة اقتصادية أهلتها لأن تصبح إحدى دول قمة مجموعة العشرين لتضيف لثقلها الديني والسياسي ثقلاً اقتصادياً لا يستهان به، إضافة إلى أن أغلب الدول العربية لا تزال تعاني من تداعيات الربيع العربي حيث أثّرَ على استقرارها السياسي والاقتصادي وجعلها تعيش في دوامة من المشكلات والأزمات دون وجود بارقة أمل في استتباب الأمن في تلك الدول في القريب العاجل. وهذا يزيد العبء على كاهل المملكة ويستلزم توظيفاً أمثل لقواها الناعمة، فهي الدولة الإسلامية الوحيدة القادرة على لعب دور القائد والموجه للشعوب الإسلامية والعربية. إن قوة الدول اليوم لم تعد تقاس بمدى كفاءتها العسكرية من معدات وآليات وجنود فحسب بل أصبحت ترتكز بشكل أساس على قواها الناعمة وبكيفية تسخير هذه القوة لتحقيق المكاسب على المدى القريب والبعيد، وهذا لن يتسنى ما لم نعمل على تكوين مراكز بحثية متخصصة في جامعاتنا ومعاهدنا.