في مقدمة كتابه «صور المثقف» يذكر الراحل إدوارد سعيد «1935 – 2003» الذي يصادف 25 سبتمبر المقبل ذكرى رحيله الحادية عشرة، الهجوم الذي تعرض له مع إعلان اسمه لإلقاء محاضرات ريث السنوية المرموقة لعام 1993 بوصفه مدافعًا نشطًا عن الحقوق الفلسطينية ولذلك فهو غير جدير بأن يطل من ذلك المنبر الثقافي العريق. كما يعرض في مقدمته أيضًا للأفكار النمطية السائدة حول المثقف في الأوساط الإعلامية البريطانية باعتبار ارتباطه بمفاهيم مثل «البرج العاجي» و«الاستعلاء»، ويشير إلى أن من مهام المثقف المهمة أن يخلخل مثل هذه الصور النمطية والتصنيفات الاختزالية التي تحد من الفكر والتواصل الإنسانيين. ومن المعروف أن «الفلسطيني» في الأدبيات الغربية مترادف مع العنف والتعصب وقتل اليهود. هذه الفكرة تدخل في إطار المعرفة العامة المسلم بها على المستوى العام لدى الغرب، أو لنكون أكثر تحديدًا، وسائل الإعلام الغربية. من هنا جاء الهجوم على إدوارد سعيد في بعض المنابر الصحافية البريطانية دون أن يتم الرجوع إلى كتبه ومؤلفاته. لقد صُور بوصفه عدوًا يلقي باللائمة على الغرب لكل ما يشهده العالم من شرور، وخصوصًا العالم الثالث. لم يتم الرجوع إلى ما قاله سعيد في كتابيه الشهيرين «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية» ومحاربته الصريحة والدائبة للتصنيفات الاختزالية الضيقة التي تقسم العالم ببساطة مخلة إلى شرق وغرب متنافرين، أو تحصر رؤيتها للبشر وفق أعراقهم ودياناتهم التي ينحدرون منها أو ينتمون إليها والاقتصار على ذلك. وكان مما حرص سعيد على التأكيد عليه مرارًا وتكرارًا هو أن الثقافات والحضارات متداخلة ومترابطة وهجينة بشكل كبير بحيث يصبح من المستحيل تقسيمها إلى طرفين متضادين أيدولوجيا هما الشرق والغرب. حتى أولئك الذين هم على اطلاع ومعرفة بكتابات سعيد السابقة أثاروا شكوكًا حول محاضراته، وأشاروا إلى أنها تحتوي على رسالة أتوبيوغرافية مقنعة وتساءلوا حول ضرورة أن يكون المثقف يساريًا وأوردوا أسماء مثل ويندام لويس ووليام بكلي اليمينيين. غير أن ما أغفله هؤلاء هو أن سعيد اعتمد، كأحد مصادره الأساسية في توصيفه للمثقف، على آراء وكتابات جوليان بيندا المعروف بانتمائه إلى اليمين. إن ما يحاول إدوارد سعيد الحديث عنه في هذه المحاضرات هو صورة المثقف الذي لا يمكن التنبؤ مسبقًا بأفعاله، البعيد عن الشعارات والدوغمات الثابتة، والانتماءات الحزبية الضيقة. إنه يحاول الوصول إلى معيار كوني واحد يتم التمسك به والرجوع إليه في التعاطي مع المعاناة الإنسانية والاضطهاد وانحسار العدالة بعيدًا عن التحزب والشوفينية والتعصب. المهمة الأساسية للمثقف، حسب توصيف سعيد، هي السعي وراء الاستقلال النسبي من الضغوط التي تفرضها عليه المؤسسات المختلفة للمجتمع الذي يعيش فيه لكي يتمكن من إحداث التغيير الذي يسعى لتحقيقه. كما أن من مهام المثقف أيضًا، أو من مزاياه وخصائصه، الخروج على الوضع الراهن والكفاح في سبيل نصرة الجماعات المضطهدة التي لا تجد من يمثلها. إن المثقف الحقيقي، إذن، منشق، ومتفلت من القيود بكافة أشكالها، وغير متوائم مع السلطة، وهو إلى ذلك متعاطف ومناصر للمهمشين والمغلوبين على أمرهم.