عندما تفرض «الغربة» على المثقف يحلق بعيدا عن وطنه، على جناح الفكر فقط، بينما يئن جناحه الآخر بوطأة «غربة الذات» في علاقة منكسرة محكوم عليها بالمصادرة! وليس له إلا أن يسكن الوطن داخله، كما عبر أكبر المغتربين «إدوارد سعيد» حين وصف المثقف المغترب «كالطائر الحر دون قفص وهدفه الوصول إلى الحقيقة!». فإن تساءلنا بم يتميز المثقف «المنفي» عن غيره؟ يجيبنا إدوارد سعيد فى حلقاته التي ألقاها عام 1993 على أثير الإذاعة البريطانية كجزء من برنامجها الأدبي الشهير والمعروف ب «محاضرات ريث»: «لا يخضع لمنطق الواقع، بل يملك الجرأة لدرجة التهور، ويمثل التغيير إلى الأمام ولا يقف جامدا». وكنت أتساءل قديما كغيري: من أين يستمد هذا المثقف مادته وأطروحاته إذا كان خارج بلده، وبعيدا عن همومه وقضاياه المصيرية وواقعه المأزوم؟! لكن الروائي جابريل جارسيا ماركيز، أشهر روائي يفوز بجائزة نوبل، يجيبنا في حوار صحفي تعليقا على وصف طريقته في الكتابة بالواقعية السحرية ب «أنه لم يكتب سطرا واحدا لا يستند إلى واقع». فأول سطر في رائعته «مئة عام من العزلة» نابع عن تجربة حدثت له شخصيا إذ يقول: «عندما كنت طفلا صغيرا قلت لجدي إنني لم أر الثلج أبدا، فاصطحبني إلى معسكر شركة الموز الأمريكية وأمر بفتح صندوق من الفاكهة المثلجة جعلني أضع يدي فيه، فانبثقت الرواية من وحي هذه الحادثة». أما الطيب صالح فقد بنى مادته الروائية من طفولته، وهو يقول: «كان عالم الطفولة بالنسبة إلي فردوسا، كان هو العالم الوحيد الذي أحببته دون تحفظ وأحسست فيه بسعادة كاملة.. لكن الحسرة الكبرى في حياتي أن طفولتي في القرية لن تعود مرة ثانية». وبرر الشاعر عبدالوهاب البياتي سكناه فى الأردن قريبا من وطنه العراق: «إنني أقيم على تخوم الوطن وكثيرا ما أرى الوطن في الليل عندما أنام وأسمع دقات قلبه، وأشم أحيانا قليلة عبير أزهاره التي تحملها الريح، وبخاصة بعد منتصف الليل». وهكذا ظل هاجس العودة للوطن باقيا فى ذاكرتهم، بالرغم من رفاهية «الغربة» فقال الطيب صالح عن لندن: «ساورني طويلا هذا الإحساس.. الإحساس بأنني خلية زرعت في مدينة كبيرة زراعة اصطناعية». وهذا ما دفعه إلى أن يطلب من تلميذه طلحة جبريل الذي كتب سيرته: «عليك أن تعود إلى السودان، حتى لو عدت مزارعا في شبا؟!».