تعدُّ المهرجانات الثقافيَّة جزءاً من الحراك الوطني الاجتماعيِّ في جانبيه التوعويِّ والفكريِّ، والمفترض بها أنَّها قد حقَّقت أَهدافها الأوليَّة منذ عقود لترتقي بالثقافة لمسارات أهدافها الرئيسة والأعمق في ضوء إستراتيجيَّةٍ وطنيَّة أنجزتها وزارةُ الثقافة والإعلام أو الجهات المشرفة عليها قبلها وأشرفتْ على تطبيقها فمراجعتها وتطويرها، ومن هذا المفهوم وفي ضوئه أقرأ واقع المهرجانات الثقافيَّة الوطنيَّة باستثناء مهرجان الجنادريَّة للثقافة والتراث ومهرجان سوق عكاظ بالآتي: تتعدَّد الجهات المنظِّمة للمهرجانات الثقافيَّة بما يحسب إيجابياً لها ولكنَّ معظمها تنظَّمُ لتسجيلها عدداً فقط لا لتسجيل آثارها وعياً ثقافياً وفكراً وطنياً واعياً. تتراجع المهرجانات الثقافيَّة الدوريَّة أهدافاً وتنظيماً ومواضيع وطروحات من مهرجان لآخر، ومثالها مهرجان عنيزة للثقافة والتراث المنطلق من أهدافه ومواضيعه وطروحاته قوياً ليصل لمرحلته القائمة بعد تهذيبه بقصره على الثقافة إلى مجرَّد إقامته، فيبدأ ببرنامج مهذَّبٍ تخوُّفاً من ملامسته للخطوط الحمراء لفئة نصَّبت نفسها حاميةً للفكر والثقافة وحارسة للدين وللفضيلة في المجتمع، وتهذَّب انطلاقته بإلغاء بعض محاضراته وندواته لمشاركة فلان أو للاختلاف في طروحاتها أو حول مواضيعها، فمثلاً ألغيت محاضرة للشيخ حسن بن فرحان المالكي، وأوقفت مشاركتان للأستاذ محمَّد السحيمي وللدكتور على بن سعد الموسى، وعطِّلت محاضرة للأستاذ نجيب الزامل، علماً أنَّها فعاليَّاتٌ أقرَّها برنامج المهرجان وأعلنها للمثقَّفين. لا تغطِّي مهرجاناتنا الثقافيَّة المساحات الثقافيَّة ولا الجغرافيَّة للوطن، إذْ تقتصر على وجوه معروفة في دائرة الرضا عنها وعليها من فئة من المجتمع تراقبها وتقوِّم طروحاتها بمعايير سنَّتْها باجتهاداتها وقناعاتها لا تتوافق عليها ومعها الشرائحُ الثقافيَّةُ الأخرى، وتقام في مناطق بحساب أنَّها أكثرُ تسامحاً أو أقلُّ مصادمة اجتماعيّة وثقافيّة. تتكرَّر مهرجاناتنا الثقافيَّة على مستوى الوطن وتكرِّر طروحاتها ووجوه مثقَّفيها، فتنحصر في دوائرها الثقافيَّة الأوليَّة لنشر المعلومات والحقائق، فتأتي طروحاتها تأريخاً ثقافياً وسيراً ذاتيَّة لا آراء ولا أفكاراً تحرِّك الراكد وتدفع المسكوت عنه اجتماعياً وثقافياً لدائرة الحوارات الاجتماعيَّة الثقافيَّة والفكريَّة. تقتطع الدورات التدريبيَّة المكرَّرة والهزيلة مساحات وقتيَّة من مهرجاناتنا الثقافيَّة، لأنَّها لا تلاقي اصطدامات فكريَّة ولا ثقافيّة من الفئة المراقبة للمهرجانات الثقافيَّة. وتلك القراءة السريعة لواقع مهرجاناتنا الثقافيَّة توحي بنواقص تلخَّصُ بالآتي: غياب الإستراتيجيَّة الوطنيَّة الثقافيَّة ابتداءً ومتابعةَ تطبيقٍ وتطويرٍ من قبل وزارة الثقافة والإعلام. خفوت تأثيراتها الإيجابيَّة ثقافياً واجتماعياً بتخوُّفاتها من الفئة المراقبة لها في ضوء معاييرها غير المعتمدة ثقافياً واجتماعياً. لا تتطوَّر تنظيماً وبرامج وطروحات للسبب السابق؛ ولذلك تقوقعت في معنى الثقافة كمصطلح وهو الأخذ من كلِّ شيء بطرف، وسيكون هذا الطرف هو المعلومات والحقائق من منظورها التراثيِّ التقليديِّ غير المختلف عليه بين شرائح المجتمع ومن يحملون الثقافة هماً تنويرياً، ولذلك تتكرَّر وجوهها الثقافيَّة لوقوع أصحابها في دائرة أوسع من الرضا عنها ومنها. ويعود الضعفُ الكبير لحضور البرامج الثقافيَّة في المهرجانات والملحوظ لدرجة إحراج المنظِّمين والمشاركين إلى المؤثِّرات الواردة في قراءة واقعها وإلى نواقصها؛ ولذلك لا يمكن صناعة فعاليَّات ثقافيَّة يكون لها أثرٌ أكبر في الوسط الثقافيِّ والاجتماعيِّ إلاَّ بعد تلافي مؤثِّراتها السلبيَّة وتدارك نواقصها؛ ممَّا سيؤدِّي لحضور ثقافي أوسع وأكبر، وستنجح مهرجانات ثقافيَّة تستهدف عامَّة المجتمع، ولكن ينبغي أن تكون إلى جانب مهرجانات ثقافيَّة تستهدف الشرائح الأعلى من المثقَّفين أيضاً، فإذا كانت الأولى تنقل الثقافة لعامَّة المجتمع وتنشرها فيما بينهم، فإنَّ الشرائح الأعلى ستحرِّر الثقافة من قيودها وستكوِّنها فكراً ووعياً وطنياً. ولعلَّ من أبرز المهرجانات الثقافيَّة المقترح استحداثها لتلبية تطلُّعات المثقَّفين والمجتمع هي ما يتناول همومَهم وتطلُّعاتِهم ويستدعي مشاركاتهم، وهنا لن أسمِّي مهرجانات وإنِّما سأقترح ما يمكن أن تقدِّمه المهرجانات القائمة أو المستجدَّة؛ ممَّا يتيح مجالات للتعريف بالإبداعات الفكريَّة والاجتماعيَّة والأدبيَّة حواراً ومحاورين، وعقد الندوات الحواريَّة في المختلف عليه واستقطاب الرأي الآخر المختلِف وإتاحة الفرص له لطروحاته ومحاورته للوصول لنقاط الاتِّفاق وليس للإدانة وللتحريض ولتسجيل الانتصارات، والحوار حول مقالات الرأي في الصحف المحليَّة لإبراز الأفكار والطموحات، وتناول الجوانب النفسيَّة المتعلِّقة بالفرد السعوديِّ مثقَّفاً وغير مثقَّف للتأكيد على إيجابيَّاتها ولطرح علاجات سلبيَّاتها، وطرح الظاهرات الاجتماعيَّة المسكوت عنها لكشفها وتحرير المواقف منها، وإقامة الأمسيات الشعريَّة والدراسات النقديَّة المباشرة للنصوص النثريَّة والشعريَّة الحاملة هموماً اجتماعيَّة وفكريَّة، وطرح التربية الإعلاميَّة ومؤثِّراتها السلبيَّة والإيجابيَّة، والإعلام النفسيُّ في فترات الأزمات الداخليَّة والخارجيَّة التي يتعرَّض لها الوطن، والتحاور في التحوُّلات الفكريَّة وفي التغيُّرات الاجتماعيَّة الإيجابيَّة والسلبيَّة، وتعدُّ نشاطات الأندية الأدبيَّة ومهرجاناتها بانعكاساتها الثقافيَّة أثراً وتأثيراً جوانب من العطاء الثقافيِّ الذي يقدِّمه الأدباء للمثقَّفين، وأحسب أنَّ الأندية الأدبيَّة لو تضافرت بجهودها وإمكاناتها وطاقاتها بإقامة مهرجان سنويٍّ موحَّد ينتقل دورياً من منطقة إلى أخرى لقدَّمت مهرجاناً وطنياً متميِّزاً. ولعلَّ وجود جهةٍ مرجعيَّة منظِّمة للمهرجانات الثقافيَّة ستكون إحدى آليَّات تطوير واقعها في المملكة، ولكن سيكون تأثيرها الإيجابي محدوداً؛ إذْ لن تحقِّق نجاحاً أكبر من الواقع والمؤثِّراتُ السلبيَّة موجودة والنواقصُ قائمة، وكذلك فإنَّ وضع إستراتيجيَّة وطنيَّة للمهرجانات الثقافيَّة يكون لها رؤيةً ورسالة وأهداف ستغيِّر من واقع المهرجانات الثقافيَّة للأفضل، ويأتي ذلك بعد دراسات للواقع وتشخيصه في ضوء المؤثِّرات والنواقص قائمة على تعميم استفتاء للمثقَّفين لتحديدها ومن ثمَّ طرح الأفكار التطويريَّة ومن ضمنها آليَّات تطويرها، فإحساس المثقَّفين بأنَّهم مشاركون في وضع إستراتيجيَّتهم الوطنيَّة الثقافيَّة سيدفعهم لإنجاحها وتطويرها لاحقاً، فمعظم المؤثِّرات السلبيَّة في نجاحات المهرجانات الثقافيَّة ما هي إلاَّ ردود فعل من أولئك المثقَّفين المهمَّشين مشاركةً ورأياً. ومن المؤكَّد الذي ينبغي الانطلاق منه بأنَّ الإستراتيجيَّة الثقافيَّة الوطنيَّة ليست تنظيمات ولا توجيهات ولا تعليمات ولا لوائح وزاريَّة، وإنَّما هي خطوط وخطط فكريَّة لمسارات ثقافيَّة تبلور رؤيةً شاملة وبعيدة المدى في ضوء رسالة ثقافيَّة تتحدَّد بأهداف متوازية ومتتابعة مكمِّلة لبعضها، ومثل هذا ليس بمقدور أفراد مسؤولين وغير مسؤولين ولا لجان وزاريَّة محدودة إنجازه، ولكنَّها أفكار ورؤى تتراكم وتفرز وعياً ثقافيّاً فتصبح مع الحوارات فيها وعنها بناءً متماسكاً يرتكز على قاعدة وطنيَّة يشمخ البناء الثقافيُّ فوقها دون أن يتأثَّر بتقلُّباتِ الأجواء الثقافيَّة المتأثِّرة برياحٍ وتياراتٍ تحرِّكها توجُّهات مؤدلجة لاتِّجاهات إقصائيَّة وتهميشيَّة.