حضر دايل كارنيجي حفلة مع أحد أصدقائه، وفي الأمسية عرَّفه صديقه على شخص ثم تركهما وانصرف. جلس كارنيجي مع ذلك الغريب الذي بدأ يتحدث عن حياته وعمله، ورغم أنه لا يعرفه إلا أنه ظل منصتاً له باهتمام طوال الأمسية. وفي اليوم التالي اتصل به صديقه وقال إن ذلك الغريب أثنى على كارنيجي ووصفه بأنه متحدث بارع.. ثم يعلق كارنيجي قائلاً إن كل ما فعله كان الإنصات فقط! وقبل أن يبدأ رمضان نَصَحَنا الشيخ العلَّامة عبدالله بن بيّه، بارك الله في عمره ونفع به، باستحداث عادة واحدة جديدة كل عام، كالإكثار من الاستغفار، أو إطالة الصمت، أو غيرها من العادات الحسنة التي إن استمر الإنسان في ممارستها طوال الشهر الكريم ستترسخ في داخله، مستشهداً بقوله تعالى: «وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً». ويعتقد علماء النفس اليوم أن ترسيخ أي عادة يكون بممارستها بشكل متصل ثلاثين يوماً. بعد أن استمعتُ إلى كلامه قررتُ أن أطيل الصمت، فبدأتُ أتحاشى الحوارات والنقاشات إلا الضرورية منها، فوجدتني أُكثر من الخلوة مع نفسي، وأكثر من الاستغفار، وأطيل الإنصات، وأفكر في الأشياء بتركيز وعمق، وأتريث قبل اتخاذ أي قرار.. والأهم من ذلك كله أنني لم أعد أشعر بأن اليوم قصير، وبأن على كاهلي أعمالاً كثيرة. بدأتُ أدركُ الأشياء من حولي، أنتبه للألوان، أركِّز في التفاصيل، وأفرح بأبسط الأشياء. وقبل أن أكتب هذا المقال قررتُ أن أصمت من السحور حتى الفطور، فبدأت الحقائق الصغيرة تتجلى أمامي وكأنني كنتُ قبلها في غيبوبة ذهنية. في فترة الصمت القصيرة تلك شعرتُ بأنني لستُ مضطراً لتبرير أي عمل، وغير محتاج إلى شرح أو إبداء أعذار.. شعرتُ بأنني لا أحتاج إلى سيرة ذاتية؛ لأنني لستُ مضطراً للتعريف بنفسي أو الحديث عنها.. عندما تُطيل الصمت تكون أنتَ أنت، منكفئاً عليك أنت، وسعيداً بك أنت. عندما تبلغ تلك الدرجة، تتدفق السكينة في داخلك وكأنها تنسكب من مصب بعيد، فتصلك نقية خالية من الشوائب، وتبدأ بملئك بالسكون والزخم، تماماً مثلما يملأ أحدهم قنينة ماءٍ من نبع بارد، في تلك اللحظة يغيب كل شيء حوله، ويصبح هو والقنينة والماء المندفع شيئاً واحداً.. كالنُّور، لا يمكن تجزئته أو الاحتفاظ به، وكل ما يمكننا فعله أن نستمتع برؤيته. حينها تبدو المشكلات في حياتك كغبار مرَّ عليك، أزعجك قليلاً ثم انتهى. ما أجمل أن تحب في صمت، وتؤمن بصمت.. الصمت كالصوم؛ تذوق حلاوته عندما تحتفظ به بينك وبين نفسك. في هذه المساحة الضيقة لا تشعر بالحاجة للمنافسة، للبذل، للكبر أو للتواضع، للكذب أو للصدق، للكرم أو للبخل، للإيثار أو للأنانية. الصمت هو أنت، هكذا مُجَردٌ مِن كل شيء إلا أنت. إنه اللحظة النبيلة التي تلتقي بها مع نفسك.. إنه حب اللقاء الأول بينكما. يقول الفلاسفة إن الفراغ غير ممكن، أي كل حيز لا بد أن يملأه شيء ما حتى إن عجزنا عن رؤيته، لكن لنفترض للحظة أنه ممكن، ولْنَدَع الصمت يُفْرِغُ الأشياء من الأشياء، يصعد بنا سلم اللا وقت، نخطو به على عتبات اللا مكان حتى نصل للفراغ. لا شيء مهم هناك، لا جمال أو قبح، لا محبة أو كره، لا خير أو شر.. صمتٌ فقط، وذلك كل شيء.. الفراغ ممكنٌ عندما يملؤه الصمت. في حديثها عن حياة زوجها الراحل، تقول عبلة الرويني، زوجة الشاعر أمل دنقل، إنه كان عندما يزور أمه يجلس معها في صمت، وربما جلسا ساعات طويلة دون أن يقولا شيئاً، ثم ينصرف عنها.. لم تفهم فحوى اللقاءات تلك حتى رحل، فلقد كان يتواصل مع أمه بالصمت.. لقد كان الصمت لغتهما. ومن أجمل ما قيل في الصمت هو بيت نزار: «فإذا وقفتُ أمام حسنك صامتاً *** فالصمتُ في حَرَم الجمال جمالُ». وعندما صمتُ أمس قضيتُ اليوم في الكتابة حتى أدركتُ أن الكتابة صمتٌ ناطق.. ولهذا يكتب الإنسان عندما يعجز عن الكلام.