يقول المرعث: إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لاتعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه وأقول كلام جميل وحكمة في منتهى الروعة من شاعر تغلبت رغباته على حكمته فسجن وجلد حتى قَضَى تحت جلد السياط. أليس هو من قال عنه مالك بن دينار (ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى الملحد). هذه الشخصية التي هي في نظري أقرب إلى الجدل، هي بحاجة إلى إعادة قراءة متأنية. فما ردّده الرواة والمؤرخون عن ميله للزندقة وتشربه للشعوبية نتاج أصوله الفارسية بالإضافة لنمطه البوهيمي في العيش كان مدعاة لكثيرين للنفور من شخصه ومن ثم عدم الإقدام على إجراء دراسات نقدية جادة لنتاجه الشعري وما أجري إلى حينه هو قليل لا يتماثل مع إنتاجه الأدبي الذي يتسم بالقوة في السبك والجودة في انتقاء المفردات والألفاظ وكذلك الجمالية في تشكيل التراكيب وبالأبعاد الفلسفية للثنائية التفاعلية بين مكونات المجتمع. من أين اكتسب هذا الرجل حكمته التي ضمنها شعره وهو المشهور بطيشه ونزقه؟ ومن أين له هذه العذوبة المتمثلة في الانتقائية اللفظية وهو الشخص التي تجمع أغلب الروايات في الأدبيات التاريخية أن عيشه كان أقرب للبوهيمية منها لحياة الإنسان الطبيعي التي لا يقاربه فيها سوى الشاعر العباسي البحتري؟. كل ذلك – في اعتقادي – سيشكل حقلاً خصباً للبحث. ومن خلال الدراسة المحققة والمتأنية لظروف الزمان والمكان لعصره فإن ذلك سيمهد للحصول على قراءة صادقة وصحيحة له كحالة شعرية استثنائية. اعتقد بأنه عندما قدم على خلفاء بني العباس فمدحهم وحصل على عطائهم – والذي وصف بأنه كان كثيراً جداً – كان بإمكانه التمتع برغد العيش وحياة وادعة هنيئة ولكنها روح الشاعر وفكره الذي يأبى إلا أن يحلق لمناطق وسماءات قد لا يطؤها الناس عادة. فبدأ التعرض للنساء في أشعاره وهتك ستر الحشمة عنهم وقد ورد في أدبيات التراث أن الناس قد نقموا عليه لصنيعه هذا وتمنوا موته. ومن ثم فقد سعى به الناس إلى الخليفة المهدي ورموه بكل سوء بل اتهموه بالزندقة التي كان يعاقب الخليفة من يتهم بها بالموت. لكن المهدي اكتفى بتحذيره ونهره عن الهجاء والتغزل بالنساء وذكر حديثهن كما تشير إلى ذلك عديد من المصادر التاريخية. في اعتقادي أن (بشار بن برد) كانت تحكمه غرائزه ونزواته ويترجم كل ذلك لسانه. هذا اللسان الذي لم يملك المقدرة للتحكم بشطحاته. وفي نظري أن لسان الشاعر يظل ملكاً لقرائه يعبر عن معاناتهم ويتلمس احتياجاتهم ويوصلها للحاكم وصانع القرار بالإضافة للذود عنهم وألا يكون سوطاً عليهم. مدح شاعرنا الخليفة فلم يكافئه كما اعتاد على ذلك دوماً. وكيف لا تتغير نفس الخليفة ويميل عن شاعرنا والوشاية تسعى بين يدي الخليفة صباح مساء. غضب شاعرنا فارتكب الخطيئة الكبرى. بل الأكثر من ذلك والأدهى أن الروايات تشير إلى أنه هجا الخليفة العباسي ودعا بني أمية للعودة لإحياء مجدهم واسترداد الحكم من بني العباس مغتصبي السلطة والخلافة. وقد قال كل ذلك شعراً ولطالما كان الشعر هو ديوان العرب فهو الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشاراً وتأثيراً على العامة حينذاك. غضب الخليفة وأمر صاحب شرطته أن يضربه بالسوط كان شاعرنا قد شارف السبعين عاماً. ولكن ألم أقل سابقاً إن لسانه كان يحكم شخصه. فضرب بالسياط حتى مات. فهو القائل – ذات يوم – وما أجمله حين قال: (إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لتهدم).